في ظل الحرب الدائرة في مالي انهمرت في بعض العواصم ومن بعض الأوساط "الحزبية" و"الحقوقية" وفي بعض المواقع والشاشات وعلى بعض أمواج الأثير "مواقف" ودموع كاذبة في مجملها - وعنصرية أحيانا - تتحسر على الإنسان وحقوقه في شمال مالي.
وتعقيبا على الوضع المتدهور في مالي، أرى من الضروري تقديم الملاحظات الجوهرية التالية:
1. من المسؤول عما يجري في مالي؟
في رأيي أن المسؤولية عما يجري في مالي من ويلات الحرب وما يعانيه المدنيون من قتل وتشريد وظلم، ليس الجيش المالي الذي يقاتل دفاعا عن وطنه وحماية لوحدة وسلامة أرضه ودولته، ولا الجيش الفرنسي الذي هب لإنقاذ مالي بعد أن جفاها وتخلى عنها القريب قبل البعيد. بل المسؤول هو أولا وأخيرا:
أ. الجماعات الإرهابية الغازية التي احتلت أراضي مالي وعاثت فسادا في ربوعها محترفة التهريب والقتل والنخاسة، وساعية إلى احتلال جميع أراضي مالي وتقطيع أوصال دولتها.
ب. الدول الغربية والعربية الراعية والممولة والحاضنة للإرهاب والجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها الدول التي صنعت القاعدة واستخدمتها أكثر من مرة في سبيل تحقيق مآربها. وهاهي تستخدمها اليوم في سوريا والعراق ولبنان والمغرب العربي والساحل الإفريقي.
ج. النظام المالي الذي هادن الجماعات الإرهابية وتخلى لها عن جزء من التراب المالي تسرح فيه وتمرح مقابل إتاوات ومكوس حقيرة؛ تاركا جيش وإدارة وأمن بلاده في مهب الريح!
د. أبناء الشمال الذين انفضوا إلى تجارة المحرمات وعطايا النظام الليبي السابق بدل أن يهتموا بالشأن العام في بلادهم ويدافعوا عن حقوقهم وعن وطنهم، وبذلك ساهموا فيما أعد لهم من تهميش واضطهاد.
هـ. الشياطين الخرس الذين سكتوا عن قول الحق، وهللوا لاحتلال مالي وتمزيق أوصالها واستباحة الإنسان وحقوقه وحضارته فيها!
2. أباء تجر، وأخرى لا تجر؟!
مما لا مراء فيه أنه يجب على كل إنسان يحترم نفسه ويتمسك بشرفه وإنسانيته الوقوف بصدق إلى جانب أخيه الإنسان - أيا كان - والدفاع عن حقوقه إبان السلم والحرب. ولتطبيق هذا المبدأ على الواقع المالي يجب علينا - إذا كنا نطمح إلى امتلاك أدنى حظ من المصداقية- أن نقوم بما يلي:
أ. التأكد من حقيقة الوضع الإنساني في الميدان كما هو، دون زيادة أو نقصان، والتعامل مع الحقيقة كما هي وبما يلائمها. والحذر كل الحذر من أن نقع فريسة لأكاذيب تجار السياسة والمخدرات والأسلحة في المنطقة وغيرهم من المرجفين وهواة الزعامة والمندسين من عملاء الاستعمار والصهيونية الساعين إلى بذر الفتنة وتخريب ما بناه الرعيل الأول من رواد النضال الوطني والاستقلال من وحدة وتضامن بين العرب الأفارقة وغير الأفارقة والأفارقة غير العرب، وبين المسلمين الأفارقة وغير الأفارقة والأفارقة غير المسلمين.
ب. طرح الأسئلة التالية بغية تصحيح ما يتسم به تفكير بعضنا من خطل واعوجاج: أين كان المتباكون يوم استباحت العصابات الإرهابية الغازية مالي واحتلت أجزاء واسعة منها ونكلت بجميع أبنائها دون تمييز أو شفقة باسم إسلام زائف متصنع؟ لماذا سكت بعضهم يومئذ، وهلل بعض فرحا وتحبيذا لما تقوم به تلك العصابات من بغي، ثم هاهم يتذكرون اليوم أن للإنسان في شمال مالي حقوقا يجب الدفاع عنها بعد أن خذلوا أمس الإنسان وداسوا حقوقه في عموم مالي؟ أباء تجر، وأخرى لا تجر؟
3. أي موقف يجب أن تقفه موريتانيا؟
لقد خيبت موريتانيا ظنون الذين راهنوا على استسلامها وتنبؤوا بحتمية دخولها الحرب؛ لحد أربك وحير أكثر المراقبين فطنة وأغزرهم تجربة وإلماما بالأوضاع الدولية! وهاهي تقف صامدة وثابتة في نهج النأي بالنفس والحياد رغم ما مورس عليها من ضغوط. وحسنا فعلت. ولكن حياد موريتانيا يجب أن يتصف بالإيجابية، فيضمن تحقيق أمور جوهرية هي:
* اليقظة العالية والجهوزية الدائمة لحماية حدود وحوزة الوطن.
* إيواء وغوث اللاجئين الماليين.
* الوقوف إلى جانب وحدة وسلامة الأراضي المالية وتقديم ما بالوسع لمساعدة الدولة المالية الشقيقة في مختلف مجالات إعادة بنائها وسيطرتها على كافة ترابها؛ بِرًّا ووفاء بحق الجوار، وردا لجميلها يوم نصرتنا في حربنا على الإرهاب.
* العمل على تصالح البيت المالي وتعايشه السلمي، من خلال تشجيع ورعاية حوار جاد وصريح بين مكونات المجتمع المالي المتعدد؛ وخصوصا بين السلطة المركزية وسكان أزواد بغية تسوية مظالمهم وإنهاء تهميشهم الدائم.
* الإلحاح في المطالبة بتطبيق المواثيق الدولية التي تحمي وتصون حقوق الإنسان في مالي.
4. كيف نحمي حقوق الإنسان المالي في ظل الحرب؟
من المعلوم وجود ترسانة قانونية تحكم الحرب. وهذه الترسانة يجب تفعيلها من طرف الجميع.
* يجب أولا على الشعب المالي في الشمال والجنوب أن يتعبأ ويتنظم من أجل فرض احترام وحماية حقوقه الواردة في المواثيق الدولية وأن لا يتحول إلى لاجئين ونائحين ينتظرون العون والمساعدة من الغير دون أن يبذلوا جهدا في سبيل أنفسهم.
* ويجب كذلك على الجيش المالي والدولة المالية حماية الإنسان وحقوقه في مالي، أيا كانت هويته ولونه ودينه ومذهبه؛ حفاظا على وحدة مالي ومن أجل كسب المصداقية والثقة المفقودة.
* كما يجب على فرنسا (الدولة الكبرى ذات التقاليد العريقة في بلورة وحماية حقوق الإنسان والحرية رغم هناتها الكثيرة، والتي أقامت الدنيا وأقعدتها وتدخلت في شؤون دولة كالمكسيك من أجل متهمة بارتكاب جريمة حق عام) أن تحرص على حماية حقوق الإنسان المالي وتطبيق المواثيق الدولية التي تحكم الحرب في هذه الحرب التي تتولى قيادتها ولها اليد الطولى فيها على الجميع.
* ونفس الواجب يقع على دول الجوار المالي التي تكتوي بنيران تلك الحرب وفي مقدمتها بلادنا.
والخلاصة التي يجب التأكيد عليها، وتكرارها في كل مناسبة، هي أن السياسة والحرب أمران جديان، وليسا شعوذة أو هزلا. وفي خضمهما يجد جد الشعوب. وعندئذ تكون في غنى عن ببغاوات تردد ما ترشح به عفويتها من قول وعمل، وترقص على إيقاع الهواجس والأوهام. أما ما تحتاجه بإلحاح شديد ما مثله إلحاح فهو إفراز وبزوغ قادة يستوعبون بما أوتوا من علم وتجربة واقع بلادهم الملموس، ويستشِفّون المستقبل، ويرتفعون بشعوبهم من حضيض العفوية والفوضى الهدامة إلى مستوى التحدي الذي تفرضه مهمات التطور الاجتماعي العنيد الذي لا يرحم!