يتناول هذا المقال :
·مقدمة في السياق العام؛
·أولا – ماهية واجب النصيحة؛
·ثانيا – ماهية واجب التحفظ وما يندرج فيه؛
·ثالثا – هل يمكن لواجب النصيحة وواجب التحفظ أن يتعارضا؟؛
·رابعا – الإطار العام لتغيير الموظف العمومي للمنكر؛
·خامسا – الإطار الخاص لتغيير الموظف العمومي للمنكر بالقلب؛
·سادسا – الإطار الخاص لتغيير الموظف العمومي للمنكر باللسان؛
·خاتمة.
مقدمة في السياق العام
--------------------------
صدر حديثا عن وزير الوظيفة العمومية والعمل (بتاريخ 12 يوليو 2021) تعميم موجه إلى الموظفين العموميين ومن في حكمهم، يتصدره بيان كون مبدأ حرية الرأي ليس ذريعة للتحلل من واجب التحفظ المنطبق على الموظفين.
ويعيد هذا التعميم إلى الأذهان الحاجة إلى بيان العلاقة بين مفاهيم عدة ذات صلة، مثل العلاقة بين مفهومي حرية التعبير وواجب التحفظ من جهة، وبين مفهومي واجب النصيحة وواجب التحفظ من جهة أخرى.
ذلك أننا نجد من بين الموظفين العموميين اليوم من يستدل بمبدأ حرية التعبير ونبل قصد النصيحة كذرائع كافية للتهوين من شأن الالتزامات التعاقدية بينه وبين الدولة كرب عمل، وفي مقدمة تلك الالتزامات ذات الصلة: واجب التحفظ.
كما أن من بينهم من هو على النقيض من ذلك؛ يظن أن الوظيفة العمومية تمنع أي شكل من أشكال الإيجابية، وتسقط تلقائيا واجب النصيحة العامة؛ بل لا يندر أن نصادف من بينهم من وطن نفسه على أن من لوازم هذه الوظيفة الامعية الكلية في الأقوال والافعال.
وبالفعل فإن الحدود بين حرية التعبير كحق من حقوق المواطنة، وواجب التحفظ كالتزام تعاقدي على الموظف العمومي، وكذلك الحدود بين واجب النصيحة كمطلب شرعي، وواجب التحفظ نفسه مرة أخرى؛ تلك الحدود، كلها، تحتاج إلى ضبط وترسيم.
وفي هذ الإطار، وفي حين تجد العلاقة بين مفهومي حرية التعبير وواجب التحفظ تكييفا سريعا، بوصف الموظف عند التعاقد مع الدولة يقبل بمحض إرادته تقييد حريته في التعبير، في نواحي معينة، من خلال القبول الضمني بانطباق شرط واجب التحفظ عليه، والمسلمون عند شروطهم؛ فإن العلاقة بين مفهومي واجب النصيحة وواجب التحفظ تحتاج إلى مزيد من التأمل.
والهدف من هذا المقال هو الغوص في ماهية واجبي النصيحة والتحفظ، بهدف استخلاص الضوابط التي تحكم كلا منهما، حتى يكون الموظف العمومي على بينة من أمره في كيفية الجمع بينهما أو الموازنة إن اقتضى الأمر ذلك.
أولا – ماهية واجب النصيحة
---------------------------------
واجب النصيحة في عمومه هو الواجب الشرعي على كل مسلم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة.
ونص الحديث عن أَبِي رُقيَّةَ تَميمِ بنِ أَوْس الدَّارِيِّ رضي اللَّه عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: ("الدِّينُ النَّصِيحَةُ"قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ"للَّه وَلِكِتَابِهِ ولِرسُولِهِ وَلأَئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ") رواه مُسْلم.
وقد ورد في واجب النصيحة أيضا: الحديث عَنْ جرير بْنِ عبدِ اللَّه رضي اللَّه عنه قَالَ:( بَايَعْتُ رَسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلى: إِقَامِ الصَّلاَةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكلِّ مُسْلِمٍ). متفقٌ عَلَيهِ.
وضمن دائرة النصيحة العامة، هناك دائرة ثانية أضيق هي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد وردت في الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة، منها قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
.كما وردت أدلة كثيرة في الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منها :
- الحديث عن حذيفة رضي اللَّه عنه (أَنَّ النَّبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالْمعرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعثَ عَلَيْكمْ عِقَاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجابُ لَكُمْ "). رواه الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.
- والحديث عن أَبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تقرأونَ هَذِهِ الآيةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وتضعونها في غير موضعها، وإِني سَمِعت رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ"). رواه أَبُو داود، والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.
وضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك دائرة ثالثة أضيق هي دائرة تغيير المنكر.
وفيها أصول متينة، كذلك، منها:
- الحديث عن أَبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: (سمِعْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ ") رواه مسلم.
- والحديث عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه (أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: "مَا مِنَ نَبِيٍّ بعَثَهُ اللَّه في أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَه مِن أُمَّتِهِ حواريُّون وأَصْحَابٌ يَأْخذون بِسُنَّتِهِ ويقْتدُون بأَمْرِه، ثُمَّ إِنَّها تَخْلُفُ مِنْ بعْدِهمْ خُلُوفٌ يقُولُون مَالاَ يفْعلُونَ، ويفْعَلُون مَالاَ يُؤْمَرون، فَمَنْ جاهدهُم بِيَدهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، ومَنْ جَاهَدهُمْ بِلِسانِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَيسَ وراءَ ذلِك مِن الإِيمانِ حبَّةُ خرْدلٍ") رواه مسلم.
وفي ظل هذه الأدلة يكون واجب النصيحة بالنسبة للموظف العمومي فرع عن واجبه العام كمسلم، ونعني به ما يلزمه به إيمانه من السعي لتحقيق كل ما فيه مصلحة معتبرة شرعا في إطار الوظيفة العامة التي يشغلها.
ثانيا – ماهية واجب التحفظ وما يندرج فيه
-------------------------------------------------
نجد ذكر واجب التحفظ المنطبق على الموظفين العموميين في القانون رقم 09-93، بتاريخ 18 يناير 1993، المتضمن للنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة، حيث نصت المادة 14 منه على أنها "تُضمن حرية الرأي للموظف وتمارس مع احترام واجب التحفظ المنطبق على الموظفين"، ولم يتضمن هذا القانون تعريفا صريحا لواجب التحفظ.
وتتضمن بداية التعميم، المشار إليه في المقدمة، والصادر حديثا عن وزير الوظيفة العمومية والعمل (بتاريخ 12 يوليو 2021)، ما يمكن أن يعتبر التفسير الرسمي لمقتضيات واجب التحفظ في ضوء مجموع النصوص القانونية والتنظيمية ذات الصلة؛ حيث بدأ هذ التعميم بما نصه:
(على الرغم من أن النظام الأساسي للوظيفة العمومية ينص على مبدأ حرية الرأي، فإنه في الوقت نفسه يجب على أي وكيل عمومي، مهما كانت رتبته في التسلسل الهرمي، أن يظل متحفظا في التعبير عن آرائه الشخصية، المكتوبة والشفهية، لا سيما السياسية منها، خلال فترة خدمته حتى في ممارسته لحياته الشخصية.
ويجب أن يكون التعبير عن هذه الآراء متوافقا مع مصالح المرفق العمومي وهيبة الوظائف المسندة، كما أن الالتزام بواجب التحفظ، الذي يفرض الاعتدال في التعبير عن الآراء، يحظر الإهانة والفظاظة والجدل في التعليقات وأي سلوك يضر لسمعة الإدارة أو صورتها).
كما نجد تعريفات لواجب التحفظ وذكرا لبعض مقتضياته، من زوايا مختلفة، لدى بعض أماثل كتابنا من ذوي الخلفية القانونية والإدارية.
فعند السيد مولاي اعلي ولد مولاي اعلي أن واجب التحفظ يعني "التزام الموظف العمومي باحترام سلطة الدولة وامتناعه عن إبداء أي رأي من شأنه المساس بالمرافق العامة أو إعاقة نشاط الإدارة، وأن يلتزم بالحياد والوقار والشرف وفق ما تمليه عليه وظيفته وما يليق بها".
وعند السيد عبد القادر ولد محمد "أنه يجسد في الأصل حياد الإدارة العمومية المراد لها أن تخدم المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وعن صراعاتهم الاجتماعية، كما أن واجب التحفظ يرتبط بالانضباط الإداري وبالالتزام والجدية وكتمان السر المهني إلى غير ذلك من القيم المعيارية لسلوك الموظف المثالي".
وعند السيد المختار ولد داهي أن القانون الموريتاني يعرف واجب التحفظ "(...)بالحياد وعدم الانحياز والنأي أثناء مزاولة المهام وفي الحياة الخاصة عن مواطن الشبهات التي قد تَخْدِشُ شرف الدولة". وفي سياق آخر يبين السيد ولد داهي أن واجب التحفظ يشمل “كتمان كل ما هم مصنف سرًا مهنيا، والحفاظ على هيبة وسلطان الإدارة والامتناع عن أي قول أو فعل أو مجلس أو ملبس قد يخدش من هيبة المرفق العام".
ويفيد السيد عبد القادر ولد محمد بأن أولى تطبيقات ردع الإخلال بواجب التحفظ ظهرت في قرار لمجلس الدولة (أعلى هيئة في المحاكم الإدارية الفرنسية) "لما عاقب بموجبه وكيلا في الاشغال العامة بتونس سنة 1935 -الخاضعة حينها للإدارة الاستعمارية الفرنسية- على خلفية تصريحات رأت فيها السلطات انتقادا تجاوز الحد في حقها ... وأن تطبيقات هذا الواجب الذي استنبطه مجلس الدولة من المبادئ العامة للقانون اختلفت حسب السلطة التقديرية للقضاة الذين أسقطوه على تصريحات متعددة قد تتضمن سبا أو قذفا أو إفشاء سر مهني أو إحراجا للإدارة المعنية أو حتى تسببا في خلق مشاكل لها، عبر كلام غير مناسب".
كما يفيد بأن "تطبيقات واجب التحفظ قد تختلف بحكم القانون حسب النظم الخاصة المعمول بها في قطاع معين، وكذلك باختلاف أهمية وظيفة الوكيل والقيمة التي قد يكتسي مجرد تعبيره بغض النظر عن مضمونه".
كما أشار السيد المختار ولد داهي إلى قضية هامة في هذا السياق، وهي أن غياب تعريف واضح لواجب التحفظ يشكل عائقا أمام الاستفادة من كثير من الأفكار البناءة للنخب، وبذلك دعا إلى "إعادة تعريف وترسيم حدود واجب التحفظ الإداري أخذا بالاعتبار التطورات المتسارعة لعالم الاتصال والإعلاميات، بحيث لا يفسر واجب التحفظ بأنه عقال للموظفين السامين يحرم الشأن العام من إسهامهم وترفيعهم للنقاش وإمدادهم المشهد العمومي بالأفكار البناءة والبانية".
وقد بسط السيد ولد داهي الكلام عن هذا التفسير السلبي لدى بعض النخب لمقتضيات واجب التحفظ، في مقال له بعنوان: الغلو في واجب التحفظ "عقال" للمواهب، وأجاد في ذلك.
وبالاستقراء من مجموع ما سبق، إضافة إلى تعريفات في كتابات قانونية من الفضاء المغاربي، فإن واجب التحفظ يعني إجمالا:
وجوب تحفظ الموظف العمومي -فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال- من كل ما يتعارض مع هيبة الوظيفة العامة أو مصالح المرفق العام.
أو هو بتفصيل أكثر التزام الموظف العمومي:
من حيث المضمون، بأن تخلو أقواله وأفعاله من كل ما يخل بمصالح المرفق العام؛ فيحافظ على السر المهني والتجرد والحياد؛
ومن حيث الأسلوب، بأن يراعي الاعتدال في الأقوال والأفعال، واستحضار هيبة المرفق العام.
وقد سبق أن ذكرنا أن قانون النظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة لم يتضمن تعريفا صريحا لواجب التحفظ، لكن في ضوء التعريف الذي استقريناه هنا، نرى أن المادة 7 من هذا القانون كانت أقرب بالفعل قريبة من تعريف واجب التحفظ من خلال ذكرها لبعض مشتملاته؛ حيث نصت على أنه "يُلزم كل موظف بمراعاة واجب الحياد والتجرد خلال ممارسته لوظائفه .كما يُلزم، خلال ممارسته لوظائفه وكذا في حياته الخاصة، بتحاشي أي تصرف من شأنه المساس من هيبة الوظيفة العمومية. ويُلزم كذلك، وفي كل الظروف، باحترام سلطة الدولة وفرض احترامها عند الاقتضاء".
ويتصل ببحثنا هنا التعريج على بيان حدود علاقة واجب التحفظ بمفهومي حرية التعبير وحرية الرأي.
وقد أشرنا أعلاه إلى أن العلاقة بين مفهومي حرية التعبير وواجب التحفظ تجد تكييفا سريعا لها، بوصف حرية التعبير أصل وواجب التحفظ استثناء، حيث أن الموظف العمومي يتنازل بمحض إرادته عن بعض حقه العام في حرية في التعبير من خلال التعاقد مع الدولة والقبول الضمني بانطباق شرط واجب التحفظ عليه.
أما مفهوم حرية الرأي، فقد يرد بمعنى حرية التعبير عن الرأي؛ فيكون بذلك مرادفا لحرية التعبير، كما هو الظاهر من إطلاقه في القانون المتعلق بالموظفين العموميين. كما قد يرد بمعنى الحرية في اقتناع الإنسان في نفسه بأي رأي؛ فيكون وفق هذ الإطلاق خارجا عن دائرة بحثنا هنا؛ لكن مع ذلك لا ينبغي أن يفوتنا التذكير بأن ما يضمره الإنسان في قلبه ويجول في فكره من تصور حول مختلف أمور الحياة من حوله له ضوابطه الشرعية التي تحكمه، شأنه في ذلك شأن كل أعمال المسلم الظاهرة والباطنة.
ثالثا- هل يمكن لواجب النصيحة وواجب التحفظ أن يتعارضا؟
-----------------------------------------------------------------------
من أجل أن نستحث أذهاننا للحصول على إجابة عن هذا السؤال، في ضوء الواقع الإداري المعاش، لعله من المفيد أن نحول هذا السؤال إلى تساؤل في اتجاهين:
- إن كان في مقتضيات التقيد بواجب التحفظ ما يمنع من أداء واجب النصيحة؛ أو
- في مقتضيات أداء واجب النصيحة ما يمنع من التقيد بواجب التحفظ.
1/ هل في مقتضيات التقيد بواجب التحفظ ما يمنع من أداء واجب النصيحة؟
في هذا الاتجاه، نبدأ بتأمل التعريف الذي استقريناه لواجب التحفظ حيث رأينا أنه يعني وجوب تحفظ الموظف العمومي -فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال- من كل ما يتعارض مع هيبة الوظيفة العامة أو مصالح المرفق العام.
أما الالتزام بهيبة الوظيفة العامة فالظاهر أنه لا ينطوي على ما يمنع أداء واجب النصيحة، بل لعل الحفاظ على تلك الهيبة عامل مساعد في تقبل النصيحة.
وكذلك رعاية مصالح المرفق العام هو كذلك، كهدف عام، منسجم تماما مع واجب النصيحة، بل إن رعاية تلك المصالح تعتبر في صدارة ما يجب أن يجسد الموظف العمومي من خلاله أداءه لواجب النصيحة.
لكن الذي يمكن أن يبدو فيه التعارض لأول وهلة هو الاختلاف في التقدير بين الموظف العمومي والمرفق العام حول مقتضيات رعاية بعض المصالح؛ مما ينجر عنه موقفان مختلفان:
- موقف للموظف العمومي، يرى فيه أن واجب النصيحة يلزمه بالتعبير عن رأي معين؛
- وموقف للمرفق العام، يرى فيه أن واجب التحفظ يلزم الموظف العمومي بعدم التعبير عن ذلك الرأي.
وبالرجوع إلى الأصل، وهو أن تقدير المرفق العام مقدم على تقدير الموظف العمومي، يزول الإشكال من حيث القواعد النظرية.
2/ هل في مقتضيات أداء واجب النصيحة ما يمنع من التقيد بواجب التحفظ؟
إذا تتبعنا في هذا الاتجاه الأسباب الملحة التي تدعو الموظف العمومي في إطار استشعاره لواجب النصيحة إلى التعبير عن رأي أو اتخاذ موقف يمكن أن يبدو كمبرر للإخلال بواجب التحفظ الإداري؛ فيمكننا الخلوص إلى أن أهم سبب لذلك هو رؤية الموظف العمومي لمنكر شرعا يرى أن عليه تغييره وجوبا، أما ما دون ذلك فلا يلح على الموظف العمومي في تقديمه على الاحتياط لواجب التحفظ.
وحيث قلنا هنا منكرا شرعا فإنه يشمل المحظور قانونا بناء على أن الأصل في سياقنا أن جميع القوانين مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
كما أن المنكر الذي نعنيه هنا قد يكون مفسدة تؤتى أو مصلحة تفوت.
ومن حيث القواعد النظرية هنا أيضا، فإنه من الناحية الشرعية، يمكن للموظف العمومي الذي رأى منكرا أن يجمع بين واجب النصيحة وواجب التحفظ إذا تقيد بالضابط الشرعي الذي يلزم الساعي لتغيير المنكر أن يكون رفيقًا في سعيه لذلك التغيير؛ لأنه إذا كان رفيقًا أعطاه الله - سبحانه وتعالى - ما لا يعطي على العنف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه".
كما أنه من الناحية القانونية، تكاد التعليميات الإدارية في التعميم الصادر حديثا حول واجب التحفظ تحصر الالتزام به في هذا الرفق المطلوب شرعا، حين تؤكد أن الالتزام بواجب التحفظ يفرض الاعتدال في التعبير عن الآراء، ويحظر الإهانة والفظاظة والجدل في التعليقات وأي سلوك يضر لسمعة الإدارة أو صورتها.
وكخلاصة لما سبق، يمكن القول إنه لا تعارض بين المقتضيات النظرية للالتزام بكل من واجبي النصيحة والتحفظ.
أما ينشأ منه التعارض في الأذهان فهو حدوث الاختلاف الفعلي في الآراء والمواقف بين الموظف العمومي والمرفق العام، ومرد ذلك إلى القصور في التطبيقات العملية لمحاولة التقيد بهاذين الواجبين لدى الموظف العمومي.
ويبدو لي أن أهم سبب قد ينجر عنه ذلك القصور هو عدم إلمام موظف عمومي ذي حس بالمسؤولية مرهف وعاطفة صادقة بضوابط تغيير المنكر، وتجاوزه جراء ذلك لحدود مرتبة التغيير المطلوبة منه شرعا، إمعانا منه في تقدير النصيحة الواجبة، أو تقاعسه عن تلك المرتبة إمعانا منه في تقدير التحفظ الواجب.
وليس من حل لضمان الجمع بين واجبي النصيحة والتحفظ إلا من خلال استحضار كل شخص معني للواجب الشرعي العام على كل مسلم، وهو ألا يعمل عملا حتى يعلم حكم الله فيه، وللواجب الخاص على الساعي لتغيير المنكر، وهو تعلم فقه تغيير المنكر من حيث شروطه التي يجب استيفائها وأحكامه التي تجب مراعاتها.
وقد ذكرت في نهاية هذا المقال، ضمن المراجع التي اعتمدت عليها، بعض العناوين المفيدة لطالب العلم. وفي المواقع العلمية الموثوق بها على الانترنت من المختصر والمفصل ما يشفي الغليل حول ما يتعلق بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه فقه تغيير المنكر.
كما خصصت المباحث الباقية من هذا المقال لخلاصات آمل أن ترشد الموظف العمومي إلى أهم ضوابط تغيير المنكر في واقعه اليومي.
رابعا – الإطار العام لتغيير الموظف العمومي للمنكر
----------------------------------------------------------
وردت في فقه تغيير المنكر أدلة كثيرة وأصول متينة، وقد اخترنا منها، أعلاه، حديثان في صحيح مسلم، أولهما الحديث عن أَبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: (سمِعْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ ")، وثانيهما الحديث عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه (أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: "مَا مِنَ نَبِيٍّ بعَثَهُ اللَّه في أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَه مِن أُمَّتِهِ حواريُّون وأَصْحَابٌ يَأْخذون بِسُنَّتِهِ ويقْتدُون بأَمْرِه، ثُمَّ إِنَّها تَخْلُفُ مِنْ بعْدِهمْ خُلُوفٌ يقُولُون مَالاَ يفْعلُونَ، ويفْعَلُون مَالاَ يُؤْمَرون، فَمَنْ جاهدهُم بِيَدهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، ومَنْ جَاهَدهُمْ بِلِسانِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَيسَ وراءَ ذلِك مِن الإِيمانِ حبَّةُ خرْدلٍ").
وقد استخلص العلماء من هذه الأدلة أن تغيير المنكر جهاد، وأنه يجب على كل مسلم رأى منكرا أن يسعى لتغييره، متدرجا بحسب استطاعته وحاله: من تغيير المنكر باليد، إلى تغييره باللسان، إلى تغييره بالقلب.
ونستخلص من كلام العلماء أن هذا الترتيب يراعي أيضا ما هو أبلغ في إزالة المنكر، فإن تغييره باليد يزيله، وتغييره باللسان يحث المجتمع على إزالته، والتغيير بالقلب ينشئ ضغطا لإزالته ويفيد الإعذار شرعا بالنسبة للمغير.
وكشأنه في كل الأعمال المطلوبة منه، على المسلم الساعي لتغيير المنكر أن يخلص النية لله أولا، ثم يتحقق من موافقته للشرع فيما حدده لتغيير المنكر من ضوابط.
ويلزمه ذلك بأن يكون عارفا بالأحكام ذات الصلة؛ فيتحقق مثلا من انطباق وصف المنكر على الأمر المراد تغييره، بأن يكون مثلا متيقنا لا مظنونا، مجمعا على حرمته لا مختلفا فيه، ظاهرا لا مستترا؛ ويتحقق أيضا من استكماله هو نفسه لشروط التغيير، ومن مرتبة التغيير التي تجب في حقه، أهي التغيير بالقلب وحده، أم معه التغيير باللسان أو اليد؛ ويتحقق كذلك من انتفاء موانع التغيير، فلا يقوم مثلا بما سيؤدي إلى منكر أكبر منه أو يضر غيره.
وقد اختلف العلماء قديما في حدود التغيير باليد: فمنهم من جعل التغيير بالسيف داخلا فيه؛ ومنهم من جعله خارجا عنه، بل رأى أن التغيير بالسيف غير وارد أصلا في الخطاب الموجه لعموم المسلمين، لكونه يختص بالسلطان.
ومن تقاسيمهم في ذلك ما نجده في مقدمات ابن رشد من أن الجهاد أربعة أقسام: جهاد بالقلب، وجهاد باللسان، وجهاد باليد، وجهاد بالسيف.
وفصل أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين ضمنيا في هذه الأقسام الأربعة، حين بسط الأقوال في إنكار المنكر بالسيف؛ فبدأ بأقوال المعتزلة والزيدية والخوارج، ثم ذكر قول الروافض، وقولا لأبي بكر الأصم وآخرون معه، وختم بقول أصحاب الحديث. وذكر أن مذهب أصحاب الحديث هو بطلان السيف وإنكار الخروج على السلطان.
ثم ذكر الأشعري اختلاف الأقوال في إنكار المنكر والأمر بالمعروف بغير السيف؛ قال: ("فقال قائلون تغير بقلبك فإن أمكنك فبلسانك فإن أمكنك فبيدك وأما السيف فلا يجوز. وقال قائلون: يجوز تغيير ذلك باللسان والقلب فأما باليد فلا").
وفي عصرنا، نجد أن جمهور العلماء اليوم ينكرون الخروج على السلاطين، كما هو معروف، وقد رجع إلى قولهم -والحمد لله- غالب من ابتلوا في عصرنا بالخروج على مجتمعاتهم ودولهم.
وبخصوص التغيير باليد، أجاد أحد الباحثين المعاصرين، وهو الدكتور محمود توفيق محمد سعد، في كتابه فقه تغيير المنكر، في بيان كون التغيير باليد غير مقصور على طائفة من الناس، يكون لها أو عليها دون غيرها، بل هـو عام يختلف مناطه ودرجته باختلاف أمور عدة، أهمها : علاقة من يقوم بالتغيير بمن يقع منه المنكر؛ ونوع المنكر المراد تغييره ومناخات وقوعه.
وأفاد أن علاقة المغير، بمن وقع منه المنكر على واحد من خمسة أحوال:
1- أن يكون للمغير ولاية خاصة على ذي المنكر، كولاية الوالد على ولده، والزوج على زوجته؛
2- أن يكون للمغير ولاية عامة على ذي المنكر، كولاية السلطان على رعيته وأمته؛
3- ألا يكون لأي من المغير وذي المنكر ولاية عامة أو خاصة، كما بين أفراد الرعية.
4-أن يكون لذي المنكر، ولاية خاصة على من يقوم بالتغيير، كأن يكون ذو المنكر والد المغير، أو زوجها.
5- أن يكون لذي المنكر ولاية عامة على المغير، كولاية السلطان الواقع في المنكر على رعيته التي تريد تغيير منكره.
وبين أن حكم التغيير باليد يختلف باختلاف هذه الأحوال الخمسة، وباختلاف المنكر نفسه وظروفه.
والحاصل من كل ذلك أن تغيير المنكر في سياق واقعنا المحلي يشمل: تغيير المنكر باليد، وأن السيف غير وارد؛ وتغيير المنكر باللسان؛ وتغير المنكر بالقلب.
وبالإسقاط على حالة الموظف العمومي تحديدا، فإن الذي يتوجه إليه في الغالب هو تغيير المنكر بالقلب، ثم تغييره باللسان، ولذلك أفردنا لهما استقلالا المبحثين المواليين.
أما تغيير المنكر باليد بالنسبة للموظف العمومي فهو حالة خاصة، يختص بها من منحت له الصلاحيات الإدارية لذلك.
فعلى سبيل المثال قد يؤدي وجود فراغ تنظيمي، أو جهل أو سوء نية عند بعض المرؤوسين، إلى ظهور منكر ضمن دائرة صلاحيات الموظف العمومي؛ مما يجعل من واجبه فحص مستوى الصلاحيات الممنوحة له، وتغيير المنكر باليد في حدود ذلك.
وقد سئل أحد كبار العلماء، وهو الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله، سؤالا عاما عن تغيير المنكر باليد؛ فأجاب جوابا تضمن فوائد كثيرة، من بينها المطلوب بيانه هنا وهو حدود التغيير باليد بالنسبة للموظف.
كان السؤال هو: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالذات التغيير باليد حق للجميع، أم أنه حق مشروط لولي الأمر ومن يعينه ولي الأمر؟
وكان جواب الشيخ هو:
((التغيير للجميع حسب استطاعته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). لكن التغيير باليد لا بد أن يكون عن قدرة لا يترتب عليه فساد أكبر وشر أكثر، فليغير باليد في بيته: على أولاده، وعلى زوجته، وعلى خدمه، وهكذا الموظف في الهيئة المختصة المعطى له صلاحيات، يغير بيده حسب التعليمات التي لديه، وإلا فلا يغير شيئًا بيده ليس له فيه صلاحية؛ لأنه إذا غير بيده فيما لا يدخل تحت صلاحيته يترتب عليه ما هو أكثر شرًا، ويترتب بلاء كثير وشر عظيم بينه وبين الناس، وبينه وبين الدولة. ولكن عليه أن يغير باللسان، كأن يقول: (اتق الله يا فلان، هذا لا يجوز)، (هذا حرام عليك)، (هذا واجب عليك)، يبين له بالأدلة الشرعية باللسان، أما باليد فيكون في محل الاستطاعة، في بيته، أو فيمن تحت يده، أو فيمن أذن له فيه من جهة السلطان أن يأمر بالمعروف، كالهيئات التي يأمرها السلطان ويعطيها الصلاحيات، يغيرون بقدر الصلاحيات التي أعطوها على الوجه الشرعي الذي شرعه الله لا يزيدون عليه، وهكذا أمير البلد يغير بيده حسب التعليمات التي لديه)). انتهى نقلا عن موسوعة الفتاوى fatawapedia.com، عازية إلى مجموع فتاوى الشيخ ابن باز(8/207 - 208).
خامسا – الإطار الخاص لتغيير الموظف العمومي للمنكر بالقلب
------------------------------------------------------------------------
يقول الشيخ يوسف القرضاوي إن التغيير بالقلب أو الجهاد بالقلب: معناه غليان القلب غضبا على المنكر، وكراهية للظلم، وإنكارا على الفساد.
ويحرص على توضيح أن التغيير أو الجهاد بالقلب ليس موقفا سلبيا، كما يفهمه بعض الناس، وإلا ما سماه الرسول تغييرا أو جهادا، ولا جعله مرتبة من مراتب الإيمان، وإن كان هو المرتبة الدنيا، التي ليس وراءها من الإيمان حبة خردل.
ويبين أن المطلوب في هذه المرتبة: أن يكره المسلم الظلم والمنكر بقلبه، ويكره مرتكبي الظلم، ومقترفي المنكر، وهذه لا يملك أحد أن يمنعه منها، لأن قلب المؤمن لا سلطان لأحد عليه غير ربه الذي خلقه.
ويفصل الدكتور محمود توفيق محمد سعد، في كتابه فقه تغيير المنكر، المذكور آنفا، في مقتضيات هذا الكره للمنكرات وأصحابها قائلا:
(وإذا كان كره المنكرات وأصحابها، فعلا قلبيا، فإن له واقعا سلوكيا في حياة صاحبه يصدق ذلك الكره أو يكذبه، فإن من آيات أو ثمرات كره المنكرات الإعراض عنها، وعن أصحابها، واجتنابهم، والاعتصام من الاختلاط بهم، وفعل ما يمكن أن يعود عليهم بنفع دنيوي، ووجوب إظهار بغض أفعالهم واحتقارهم ما داموا على منكرهم، ووجوب قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا سيما المجاهرون منهم بمنكراتهم.
وسبيل مقاطعة أهل المنكر المجاهرين والمرجفين في المدينة، به ضرب من ضروب التغيير المؤثرة، وهو مما لا يعجز عنه أحد أبدا.
والناظر في حال كثير من الناس، يرى تخليا عن جميع مراتب تغيير المنكر وسبله : التغيير اليدوي، واللساني، والقلبي، ولا يعين أحدا على شيء من ذلك التغيير. بل ترى كثيرا من العامة يبتهجون بمعرفة وصحبة المتمرسين بالمنكرات، ويفتخرون بمعرفتهم أو مشاهدتهم ومصافحتهم ومعرفة دقائق أخبارهم، هـذا ما تراه في حال كثير من العامة مع أصحاب المنكرات المجاهرين بها الساعين إلى إشاعة الفاحشة في الأمة..).
ومن أبسط مقتضيات تغيير المسلم للمنكر بالقلب، بعد كرهه بقلبه، أن يغادر المكان الذي فيه المنكر؛ حتى لا يشاهد المنكر.
متى يجوز الاقتصار على الإنكار بالقلب؟
كما ينص عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فإن من رأى منكرا لا يكتفي بالتغيير بالقلب إلا عند ما لا يستطيع تغييره باليد أو اللسان.
وبخصوص المنكرات التي في المجال العام تحديدا، فقد ورد في صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
("إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم. ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال : لا ما صلوا").
ويعزى للمناوي في فيض القدير في شرح هذا الحديث قوله: (فتعرفون وتنكرون- أي تعرفون بعض أحوالهم وأقوالهم لموافقتها للشرع، وتنكرون بعضها بمخالفتها به- فمن كره- ذلك المنكر بلسانه، بأن أمكن تغييره بالقول فقد -برئ- من النفاق والمداهنة –ومن أنكر- بقلبه فقط ومنعه الضعف من إظهار النكير فقد –سلم- من العقوبة على تركه النكير ظاهرا –ولكن من رضي- أي رضي بالمنكر –وتابع- عليه في العمل فهو الذي لم يبرأ من المداهنة والنفاق، ولم يسلم من العقوبة، فهو الذي شاركهم في العصيان، واندرج معهم تحت اسم الطغيان).
ويقول الإمام النووي عن حديث أم سلمة هذا: (وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يكرهه بقلبه أو بالمتابعة عليه).
ومن المفيد في هذا السياق بيان المقصود بعدم الاستطاعة التي يجوز معها الاقتصار على الإنكار بالقلب.
فمن أبرز صور عدم الاستطاعة ألا يأمن السعي لتغيير المنكر الضرر على نفسه وماله وما شابههما.
والخوف من الضرر يكون إما بالعلم اليقيني بوجوده، أو بالظن الغالب بتحقق الضرر، أما مجرد الوهم بالضرر أو احتمال وقوعه أو إمكانه فلا يزيل الوجوب ... ويعزى للغزالي قوله مفصلا في ذلك: (فإن قيل فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه؟ قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح؛ نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف).
واختلف العلماء هل يعد من صور العجز المسقط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلم بعدم فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك لا يجدي في التغيير. فذهب جماعة إلى اعتبار ذلك من صور العجز المسقط للأمر، واحتجوا بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)، قال العدوي: (وشرط الوجوب أن يعلم أو يغلب على ظنه الإفادة وإلا سقط الوجوب وبقي الجواز أو الندب). ولم يشترط آخرون أن يتيقن المغير أن تغييره للمنكر مفض إلى أثر، فيمن يغير منكره، فليس عليه أن ينظر تقبل وعظه، أو الاستجابة لأمره ونهيه، فإن الله عز وجل ما كلفنا أن يكون لدعوتنا أثر في الآخرين: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ).
وفي سياق شبيه بموضوعنا، سئلت هيئة الإفتاء بموقع الشبكة الإسلامية www.islamweb.net عمن يرى أن وظيفته وعمله لا يسمحان له بالنهي عن المنكر؛ لأنه بلغه أنه إن عُلم بتغييره للمنكر فإنه سيطرد من عمله، وسيبقى بدون عمل، هل يجوز لي في هذه الحالة ترك تغيير المنكر باللسان والاكتفاء بتغييره بالقلب، درءا للضرر؟.
وقد تضمن جواب هيئة الإفتاء المذكورة أن المسلم إذا عجز عن إنكار المنكر بيده ولسانه، لعدم استطاعته ذلك، أو لما ينزل به من ضرر غير محتمل، أو لما قد يترتب على ذلك من مفسدة أكبر من المنكر الذي ينكره، فهو معذور في ترك ذلك الإنكار، ولينتقل إلى المرتبة الثالثة وهي الإنكار بالقلب، ولا يلحقه في هذه الحالة إثم.
وأوضحوا أنه يبقى النظر في حال السائل لمعرفة حقيقة طرده من العمل إذا نهى عن المنكر بلسانه، ولتقدير المفسدة المترتبة على ذلك؛ فإن كان طرده من عمله حقيقة مبنية على أمر واقع، وكان هو العائل لنفسه أو لأسرته، ويغلب على ظنه أنه لا يجد عملا غيره، مما سيؤدي إلى ضياعه أو ضياع من يعول، أو وقوعهم في ضيق وحرج يصعب تحمله، فهو معذور في الاكتفاء بالنهي عن المنكر بقلبه. بخلاف ما إذا كان الطرد من العمل مجرد وهم أو ظن ضعيف، أو كان بمقدوره الاستغناء عن العمل أو الحصول على غيره، فلا يسعه الاكتفاء بالإنكار بالقلب.
سادسا – الإطار الخاص لتغيير الموظف العمومي للمنكر باللسان
--------------------------------------------------------------------------
نستعرض في هذا المبحث بعض الأحكام المهمة للموظف العمومي والمتعلقة بفقه تغيير المنكر باللسان، دون أن نخوض في المسائل الدقيقة التي يجب على الموظف العمومي -متى صادفته- أن يسأل عنها أهل الذكر، قال تعالى :(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون)، ولا يعمل برأيه من غير أهلية للنظر.
وفي ضوء أصل موضوع بحثنا هنا، وهو الموازنة بين واجب النصيحة وواجب التحفظ، فإن التزام الموظف العمومي بفقه تغيير المنكر باللسان تحديدا وإلمامه الكافي به يعتبر أكثر التصاقا بهذا الموضوع، وقمن أن ييسر للموظف العمومي الموازنة المطلوبة؛ بحيث لا يفرط في الواجب عليه شرعا، ولا يفرط في التزاماته القانونية التعاقدية.
ولأجل ذلك أفردنا لمرتبة الإنكار باللسان هذا المبحث للتفصيل فيها قدر الإمكان.
ونمهد لذلك بالتذكير بأن لتغيير المنكر جملة من الشروط التي يجب أن تتوفر في المغيِّر، وفي الفعل المراد تغييره، وفي الفاعل للمنكر؛ قبل الشروع في عملية التغيير نفسها.
ومن أهم ما ينبغي التذكير به من تلك الشروط ما يتعلق بالفعل المراد تغييره، نظرا لكثرة وقوع الخطأ فيه واستعجال الناس عن استكماله.
فمن الشروط في الفعل المراد تغييره ما يلي:
- أن يكون منكراً بالفعل، أي محرما، لا ما دون ذلك كالمكروه وخلاف الأولى؛
- أن يكون متفقاً على تحريمه، لا ما كان مختلفا فيه خلافا معتبرا، فالقاعدة أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وإنما يكتفى في المختلف فيه بالدعوة إلى ما هو أرجح؛
- أن يكون محقق الوجود. وقد عبر الحديث عن ذلك بلفظ (من رأى منكم منكرا)، أي بـ "رأى البصرية"، لتفيد حصول اليقين للإنسان بنفسه، وليخرج من ذلك كل ما هو مظنون أو متوهم. وهذا الضابط من أكثر ما يجب تذكير الناس به في عصرنا، لكثرة تحديث الناس بكل ما يسمعون، مما ينجر عنه مؤاخذة بعضهم لبعض بالتهمة أو بالظن، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا). ويندرج في ذلك وجوب التحقق من كون الفعل المراد تغييره منكرا في حق فاعله تحديدا؛ فقد تكون له رخصة، أو يكون فعله لضرورة لم تزل بعد؛
- أن يكون موجوداً في الحال، لا منقضيا أو متوقعا لم يشرع فيه؛
- أن يكون ظاهراً من غير تجسس، إذ الخطاب إنما يتوجه إلى المنكر الظاهر، والتجسس منهي عنه بنص الآية أعلاه.
وكما يجب أن تتحقق شروط قبل الشروع في تغيير المنكر، يجب أيضا أن تنتفي موانع؛ فيحرم إنكار المنكر الذي يؤدي إلى منكر أعظم منه، أو الذي يترتب عليه ضرر يصيب غير الساعي لتغييره، مثل أهله، أو جيرانه، أو زملائه.
وبعد هذا التذكير ببعض شروط تغيير المنكر وبعض الموانع، نستعرض فيما يلي خطوات تغيير المنكر باللسان، وبعض صور تغيير المنكر باللسان الخاصة بالموظف العمومي ومنها بعض الحالات التي يكون فيها الصبر أولى بالنسبة له.
1/ خطوات تغيير المنكر باللسان:
الخطوة الأولى: التعريف باللين واللطف : وذلك بأن يُعرَّف مرتكب المنكر - إما بالإشارة أو التعريض حسب الموقف - بأن ما يرتكبه حرام، وأنه يعتبره أرفع من أن يفعل ذلك بالقصد، فإن الجاهل يقدم على الشي لا يظنه منكرا، فإذا عرف أنه منكر تركه وأقلع عنه. فيجب تعريفه باللطف والحكمة والرفق واللين، حتى يقبل ولا ينفر أو تأخذه العزة بالإثم. ويقال له مثلا: إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علمنا العلماء.. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء . فعن عائشة -رضي الله عنها - قالت: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام أيضا: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
الخطوة الثانية: النهي بالوعظ والنصح، بذكر آيات الترهيب والوعيد، ولكن بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة.
والذي يفهم من مجموع من استعرضناه هو اقتصار الموظف العمومي المغير للمنكر على هاتين الخطوتين، حيث كان المنكر خارج دائرة صلاحياته. أما إن كان المنكر ضمن دائرة صلاحياته، فقد سبق أن ذكرنا أن فرضه حينئذ هو تغيير المنكر باليد، وله في مرتبة التغيير باللسان إضافة خطوتين أخريتين، هما: الغلظة بالقول بعد أن لم تثمر خطوتا التعريف والنهي مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك، ثم التهديد والتخويف في حدود المعقول عقلا وشرعا.
2/ من صور التغيير باللسان الخاصة بالموظف العمومي:
أ) رفض التقيد بالأوامر غير الشرعية :
من واجب الموظف رفض التقيد بالأوامر غير الشرعية، ورفضه ذلك من صور تغيير المنكر باللسان، ويسنده في ذلك القانون الخاص بالنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة، في المادة 8 منه، حيث ينص على أنه: (يلزم كل موظف بالتقيد بالتعليمات العامة وبالأوامر الفردية المكتوبة أو الشفهية الصادرة عن رئيسه، فيما عدا حالة كون الأمر الموجه إليه غير مشروع بصفة جلية وفي الوقت نفسه من طبيعته الإخلال الخطير بمصلحة عامة، خاصة إذا كان هذا الأمر من شأنه أن يحمل الموظف على ارتكاب مخالفة جنائية).
ويمكن تفسير المقصود بـ "الأمر غير المشروع بصفة جلية" بأنه يشمل كل محظور قانونا، أو محرم إجماعي شرعا، موافقا في ذلك لتعريف المنكر.
وفي سياق الحديث عن الموظف العمومي، فإن من المنكرات التي يجب أن يرفض المشاركة فيها بأي وجه: منكرات الفساد.
وقد عرف القانون 2016- 014 المتعلق بمكافحة الفساد، الصادر بتاريخ 15 ابريل 2016، في المادة الأولى منه، الفساد بأنه يعني كل الجرائم المنصوص عليها في ذلك القانون، والتي باستقصائها نعلم أنها تشمل : الرشوة، والزيادة في الفوترة والنفقات الوهمية، واختلاس الممتلكات أو تبديدها أو إتلافها، والغدر (ولعل المقصود به الوقيعة بالآخرين)، والإعفاء والتخفيض غير الشرعي، واستغلال النفوذ، وأخذ فوائد بصفة غير قانونية، والإثراء غير المشروع، وإحصاء العائدات الإجرامية، وإعاقة سير العدالة.
وقد جعل هذا القانون عقوبة المشارك في الفساد مثل عقوبة الفاعل الأصلي.
كما أن على الموظف العمومي أن يعي خطورة الإعانة على الظلم ويحذر منها، وأن يرفض التقيد بالأوامر الإدارية التي تتضمن ظلما؛ ذلك أن الإسلام يطلب من المسلم أمرين أساسيين: أولهما: ألا يظلم. وثانيهما: ألا يكون عونا لظالم، فإن أعوان الظالم معه في جهنم.
وقد جاء في الحديث الصحيح: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول الله؛ ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ فقال: "تحجزه –أو تمنعه- من الظلم، فإن ذلك نصره".
ب) التبليغ عن المنكرات :
على الموظف العمومي أن يبلغ السلطات العمومية المختصة بما يراه من المنكر المتعلق بمحظورات بنص القانون، مؤديا بذلك الواجب الشرعي في التبليغ عن المنكر لدى من له قدرة على تغييره.
بل إنه بذلك التبليغ وحده يخرج نفسه من طائلة العقوبة حيث تعلق الأمر بجرائم الفساد، فقد نصت المادة 20 من القانون المتعلق بمكافحة الفساد على أنه: ((يعاقب بالحبس من سنة (1) إلى خمس (5) سنوات وبغرامة من مائتي ألف (200.000) أوقية (= قديمة) إلى مليون (1.000.000) أوقية (= قديمة) كل شخص يعلم بحكم وظيفته الدائمة أو المؤقتة بوقوع جريمة أو أكثر من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون ولم يبلغ عنها السلطات العمومية المختصة في الوقت المناسب)).
ج) حالات خاصة يكون فيه الصبر أولى :
تحصلت لدينا من ذلك حالتان، نصت عليهما الأدلة الشرعية ، هي :
الحالة الأولى : وقوع ظلم على الموظف العمومي يختص به
يتعلق الأمر بالحالة التي يقع فيها ظلم محقق على الموظف يكون مختصا به بخلاف ما لو كان الظلم يشمل معه غيره فإنه حينئذ يكون منكرا عاما. إذن، فالحالة هنا أن الظلم يختص بالمرء، ومدارها حينئذ يكون على فقه التعامل مع الظلم.
والذي ينصح به المظلوم هو أن يهون الموضوع على نفسه، وقد قال تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، وأن يشرح ما وقع عليه من الظلم المحقق للجهة الإدارية المعنية بمثل تلك التظلمات، ويطالب بحكمة ورفق ولين برفع الظلم عنه.
فإن استمر الظلم، فقد وردت نصوص في الشرع كثيرة تحث المظلوم على الصبر، قال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وقال: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
بل يوجهه القرآن الكريم بعد الصبر إلى سلوك أرقى من ذلك، وهو معاملة المسيء بالحسنى والدفع بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
ويجوز الدعاء على الظالم ولو كان مسلماً، وإن كانت مسامحته أولى، وفُسر قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) بأن معناه أن الله لا يحب أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه.
الحالة الثانية - رؤية الموظف العمومي للأثرة عليه
تتعلق هذه الحالة بالنسبة للموظف العمومي برؤيته لمن هو أعلى منه مركزا في الإدارة وهو يوثر نفسه ويختصها بما يتحقق الموظف بأنه أولى به. وفي هذه الحالة فإنه أيضا مأمور بالصبر، ما دام الضرر قاصرا عليه وليس عاما.
وقد جاء الشرع بالترغيب في الصبر على الأثرة، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم).
خاتمة
-------
توصل هذا البحث إلى الخلاصات والنتائج التالية:
·واجب النصيحة في عمومه هو الواجب الشرعي على كل مسلم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: الدين النصيحة. وضمن دائرة النصيحة العامة، هناك دائرة ثانية أضيق هي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك دائرة ثالثة أضيق هي دائرة تغيير المنكر.
· نجد ذكر واجب التحفظ المنطبق على الموظفين العموميين في القانون رقم 09-93، بتاريخ 18 يناير 1993، المتضمن للنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة، حيث نصت المادة 14 منه على أنها "تُضمن حرية الرأي للموظف وتمارس مع احترام واجب التحفظ المنطبق على الموظفين"، وبالاستقراء ، فإن واجب التحفظ يعني إجمالا: وجوب تحفظ الموظف العمومي -فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال- من كل ما يتعارض مع هيبة الوظيفة العامة أو مصالح المرفق العام.
· يمكن القول إنه لا تعارض بين المقتضيات النظرية للالتزام بكل من واجبي النصيحة والتحفظ. أما ينشأ منه التعارض في واقع الموظف العمومي فهو القصور في التطبيقات العملية لمحاولة التقيد بهاذين الواجبين.
· تغيير المنكر في سياق واقعنا المحلي يشمل: تغيير المنكر باليد، ويخرج من حدوده ما بوب عليه بعض الفقهاء قديما من التغيير بالسيف؛ وتغيير المنكر باللسان؛ وتغير المنكر بالقلب. وبالإسقاط على حالة الموظف العمومي تحديدا، فإن الذي يتوجه إليه في الغالب هو تغيير المنكر بالقلب، أو تغييره باللسان، أما تغيير المنكر باليد بالنسبة له فهو حالة خاصة، يختص بها من منحت له الصلاحيات الإدارية لذلك.
·تغيير أو جهاد المنكر بالقلب ليس موقفا سلبيا، كما يفهمه بعض الناس، وإلا ما سماه الرسول تغييرا أو جهادا، ولا جعله مرتبة من مراتب الإيمان، وإن كان هو المرتبة الدنيا، التي ليس وراءها من الإيمان حبة خردل. والمطلوب في هذه المرتبة: أن يكره المسلم ما رآه من المنكر بقلبه، ويكره مقترفيه، وأن يصدق سلوكه ذلك الكره؛ فيغادر مثلا مكان المنكر، ويعرض عن أصحابه.
·لتغيير المنكر باللسان: شروط لتحققها؛ وموانع لانتفائها؛ وخطوات لمراعاتها؛ وصور عامة؛ وأخرى خاصة لصيقة بوضع الموظف العمومي، منها : رفض التقيد بالأوامر غير الشرعية، والتبليغ عن المنكرات، وما يكون الصبر فيه أولى مثل وقوع ظلم عليه يختص به، أو الأثرة عليه بمعنى رؤيته لمن هو أعلى منه مركزا وهو يوثر نفسه بما هو أولى به.
عن الكاتب :
-------------
- حاصل على دبوم مهندس، ومتريز في الفقه وأصوله، وماستر في الاقتصاد الإسلامي؛
- عمل في القطاع العمومي وشبه العمومي منذ سنة 2010، وشغل خلال ذلك عدة وظائف سامية.
المراجع :
---------
- تفسير ابن كثير.
- رياض الصالحين للإمام النووي، وشرحه للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
- مواقع الفتوى المعروفة بذلك، مثل: الشبكة الإسلامية www.islamweb.net والإسلام سؤال وجوابwww.islamqa.info .
- كتاب فقه تغيير المنكر للدكتور محمود توفيق محمد سعد، من سلسلة كتب الأمة.
- فقه الجهاد، دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء الكتاب والسنة للشيخ يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 2009.
- أركان وشروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بحوث جامعة الإيمان.
- القانون رقم 09-93، بتاريخ 18 يناير 1993، المتضمن للنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة.
- تعميم من وزير الوظيفة العمومية والعمل، بتاريخ 12 يوليو 2021.
- مقالان: (واجب التحفظ في الوظيفة العمومية ... بمنابر السوشيال ميديا) و(الموظف وحرية التعبير)، عبد القادر ولد محمد.
- مقال : (التحفظ على واجب التحفظ)، مولاي اعلي ولد مولاي اعلي.
- مقالان : (وسائِطُ التَّواصُل الاجْتِماعِيِّ وحُدودُ واجبِ التَّحَفُّظِ الإِدَارِي) و(الغُلُوُ في واجبِ التَحَفُظِ "عِقَالُ" للمَوَاهِبِ)، المختار ولد داهى.
- Guide du devoir de réserve et de la liberté d’expression des agents publics, Le collectif Nos services publics (nosservicespublics.fr), juillet 2021.