فى صيف طويل ليس كمثل الأصياف، لاحت فى الأفق غمامة وُعودٍ ، ،تحمل بشائر غيث ؛ إستفتاء، دستور، غرفة برلمانية(نُواب-مجلس شيوخ)...! كانت جُموع الشعب متعطشة للتّغيير بعدما طغت على المشهد السياسي ظاهرة حُكْمِ حزب الشعب الوحيد، المُزاحة لاحقاً بسلطة العسكري العتيد..! كانت غمامة مُكْفَهِرّة ،حيث هبّت رياح التغيير على البُلْدَانِ من حولنا فلم يَعُد بُدُُّ من تطريز الثوب (البَدْلَة)على مقاسات عصرية وديمقراطية بطبخة جاهزة، تمامًا كإستيراد عُلب السّردين ...! ولكن لا ضَيْر فى ذلك مادامت فُلول الطبقة السياسية و وُجّهاء القوم سينالون من حساء السّردين هذا ، إذْ أنَّ الزمن وقتها كان ميكافيليا (الغاية تبرر الوسيلة)...!
حدثَ ذلك والطيف السياسي تتجاذبه الإيديولوجيات إلى قوميين، شيوعيين، اسلامويين، نقابيين مُعتصمين...!
وشيجة الأخوة فى الوطن تزاوجت مع عقيدة التّأدلج والثلة الباقية من شباب الأمّة تُغَيِّبُه البطالة ويرزح تحت وطأة الفقر وتُرَاوِدُه أحلام الهجرة إلى أوروبا وأمريكا ...! تَدَاعى القوم كلّهم للمولود الجديد كما يتداعى الغريق..! المنقذ هذه المرة ليس عاديا ، إنه يُنْبِئُ بِتَقَاسُمِ الكعكة ويتعهد بخلق هوامش فى المناصب والإدارة... وبإختصار يبعث روح أمل فى أمّة منكسرة لم تصل بعدُ إلى مرحلة الدولة العصرية الحديثة.
هذا المخاض العسير أَفْرَز ديمقراطية مُطْبقة ،أطلّت بظلالها عقودًا على كل جوانب الحياة فى هذه الرُقعة التي يَعِزّ (يصعب) علينا ما آلت إليه من تشتت فى جهود التنمية وضَياع الفُرص وغِياب التخطيط والإعمار والتّشييد وتَهالُكِ المنجز والسّيبة وهدر المال العام وإفلاس القيم وهشاشة أَمْن الأنفس وصيانة الأعراض..!
أن تُرمم وطناً قبل أن تبني إنسانا، تلك لعمري مُفَارقة وفَهْمُُ بالمقلوب...
ظلّ رسول الله فى مكة ١٣ سنةً يؤسس لِقيم الدولة قبل أن ينتقل إلى المدينة المنورة ، كان يغرس الإيمان فى النفوس ، يُربي الجيل الجديد ،حجر الأساس فى أيِّ نهضة والذي سيصون المكتسبات ويحافظ على إستمرارية الدولة وتلك فلسفة رائدة فى عِلم إدارة الأمم...
بيت القصيد هنا أننا للأسف عكسنا التّيار إذْ مَخَرتنا السياسة ، تَحَزَّبْنا حتى قبل نيل الإستقلال (حزب النهضة-الإتحاد الإشتراكي-التجمع الموريتاني-الوطني الموريتاني)وهي أحزاب أحزاب لم تعمر كثيرا حيث أستطاع المرحوم ولد داداه صهرها فى بوتقة حزب الشعب كما هي عادة الأحزاب عندنا ، تعوزها ديمومة القواعد وتتوارى ملاذًا وأرضًا خصبة لِلمد القبلي والأسري والجهوي وأحيانًا لإرتهانات الإثني(عرب -زنوج)...!
فوق ذلك كلّه ونسطرها للتاريخ ،فإننا لا نُزايِد ولا نُنكر نضالات الكادحين والقومييين والإسلامييين والحركة النقابية العُمالية ..ولا نجحد جَمِيلَ الظاهرة الإيديولوجيةوأَيْقُونَتَها التى كانت ملهمة ومغذية للنزعة الوطنية والقومية وباعثة لإرادة التحرر والإنعتاق والإلتفاف حول قضايا المصير المشترك...إِلاَّ أننا نَعِيبُ على بعض مُرِيدِهاَ خصيصة الإنتماء الخارجي التى دفعنا ثمنها مَحليا وسَوَّست قوة الفئة الحية والشباب الناضح الذي كان عليه أن ينهض بشؤون البلاد والعباد...! لقد كنا بحاجة ماسة إلى إستفراغ تلك العقول النّابهةوالسواعد الفتية فى تشييد صُروح التنمية فى الداخل ،لا بِهَدرِها فى غَيْرِهِ.
تشبعت أجيال الإستقلال بكل المشارب الفكرية وصارت تحمل هموم الشعوب الأخرى المضطهدة فى العالم الثالث ،وهذا مقبول ولكن بشرط ترتيب الأولويات حتى أنَّ شُيوخ الحيِّ(القرية)فِينا، يُسَامِرُون إذاعة BBC أكثر مِمّا ينصتون لأخبار الدّاخل التّرابي ضاربين بذلك رقما قياسيا ومؤشرا خطيرا على إِستفحال ظاهرة التَّسَيُسِ فى جذوة الأمّة..!
كم نحن بحاجة إلى تأصيل ثقافة التّخصص ، فتبقي السياسة للسّياسيين، والحرب والسلاح والأمن للعسكريين، والبرلمان للقانونيين والإقتصاديين، والتكوين والتّأطير للإجتماعيين والوعظ والإرشاد للفقهاء....! لقد أَزاحت عدوى السياسة والتَّسَيُس جِيلَ التقنوقراط الذي تقوم عليه ركائز الدولة فلم يَعُد مبدأ الرّجل المناسب فى المكان المناسب قائما.
هذا حصاد عقود من الإستقلال ؛ أمّة مُسَيَسَة ، ديمقراطية تَكْبُو فى بعدها البشري على الأقل...فهل سنخلع الثّوب ونُعِيد تَمْلِيحَ السّردين أمْ أنَّ الزمن كفيل بقلب الأدوار وإعادة ترتيب البيت ؟
ومَن يدري فقد يكون هذا الرُّكام الديمقراطي صَفَّارَةَ إنذار لِجِيلٍ من القادة الجُدد يَتَبَاشَرُ الأهْلُونَ بِقُدُومِهِ، لا غمامة تِسعِينيات القرن العشرين .
ويبقى عَزاؤُنا الوحيد أننا نؤمن جزمًا بخطاب التّنزيل:
((إنَّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال)). صدق الله العظيم.