بدت الهُوة بين الفقراء والأغنياء تتسع بشكل مخيف منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. وتلاشى ذلك الاحترام الذي كان يحظى به الطلاب المتميزون داخل الفصل؛ لم يعد هناك من يخطب ودهم أملاً في المساعدة خلال الامتحانات.
تغير كل شيء فجأة فالأقسام أصبحت أشبه بصالات لعرض الأزياء؛ كل من فيها يتحدثون عن ماركات الأقمصة والأحذية وحتى عن آخر موديل لأحدث السيارات..
كان خالد طالباً متميزاً ..لكن ظروفه الصعبة فرضت عليه أن يرتدي دراعة من "بزاه الصين" طوال السنة الدراسية ..قد يغيرها ببعض الملابس المستعملة في حالات نادرة ..لذا لقبه زملاؤه الميسورون بخالد "لُموسٌخ"..حزت في نفسه كثيرا تلك العبارات الجارحة؛ ومع ذلك احتغظ بابتسامات خجولة تخفي وراءها الكثير من الألم ..
لقد شكل اهتمام الأساتذة به حافزا مهما له لمواصلة دراسته؛ فمشاركته أثناء الدرس وحلوله العبقرية للواجبات المنزلية جعلته يحظى بعنابة جميع مدرسيه ومن مختلف المواد. ربما لم يكتشف زملاء الدراسة و الأساتذة أن خالدا تتقاسمه هموم من نوع آخر ؛ فالطفل النحيف يحتاج لقطع عشرة كيلومترات يوميا على قدميه لكي يصل إلى مدرسته في وسط المدينة. فهو يسكن مع أحد أقاربه في أحياء القصدير؛ حيث لا ماء ولا كهرباء؛ الأمر الذي فرض عليه قضاء بعض الوقت في الشارع العام ليتمكن من المراجعة تحت أعمدة الإنارة العمومية..
نظامه الغذائي اختصر على وجبة واحدة فقط خلال اربع عشرين ساعة؛ ومع ذلك لم تلفت انتباهه الوجبات السريعة والمشروبات الغازية التي يتناولها زملاء الدراسة على رأس الساعة تقريبا .
ففي كل مرة يخرج للاستراحة بين الدروس يجلس معزولا ليبدأ باسترجاع ذاكرته الطويلة مع المعاناة ..وتدور في رأسه أسئلة جوهرية بالنسبة لواقعه اليومي من قبيل: كيف له أن يجد تذكرة الباص "عشر أواق"..وهل بإمكانه فعلا أن يصل إلى كوخ أقاربه قبل فوات الأوان ( موعد الغداء) ؟ .في بعض الأحيان ينتابه شعور بالإحباط يدفعه لسؤال نفسه هل سيتغير هذا الوضع يوما ما؟.
أصبحت المدرسة بالنسبة له كابوساً؛ لأنها تذكره بمعاناته وبالفوارق المادية الكبيرة بينه وبين زملائه داخل الفصل.
ذات يوم وبين ماكان خالد عائدا على رجليه إلى حيث يسكن في الحر الشديد اغمي عليه في أحد الشوارع ؛ تصادف ذلك مع مرور أحد المحسنين فنقله إلى المستشفى ..وحين استعاد وعيه سأله الطبيب عن اسمه ومحل إقامته أجابه بأنه يسكن مع أقاربه في أحد الأحياء الفقيرة..وأنه تلميذ في السنة خامسة شعبة الرباضيات؛ قال له الطبيب بعفوية هل لديك ما يثبت ذلك ؟ بعد جهد جهيد أخرج الشاب الذي انهكه الجوع من جيبه كشف درجات يحمل معدل تسعة عشر من عشرين..دقق الطببب النظر في الورقة؛ فإذا بجميع خانات الملاحظات مكتوب فيها ممتاز.
نظر في عينيه فقال على و جه المزاح أنت تلميذ ممتاز ..ولا شك أنك تملك ثمن الفحوص أليس كذلك؟ ؛ كان الدكتور على يقين من أن نظارات مريضه الحائرة توحي بأنه مستسلم للمجهول ..فكرر الجملة ذاتها ..لكن رد التلميذ البائس كان صادما؛حين قال بصوت أشبه بأنات متألم ..كنت أفكر قبل سقوطي بطريقة أحصل بهاعلى تذكرة الباص(20 أوقية ) ذهابيا وإيابا كي لا أتخلف عن حصة الرياضيات..أدار الطبيب ظهره لخالد وبكى كثيرا حتى سقطت منه بعض الأجهزية الطبية التي كان يحملها..لم يستطع الحديث من شدة البكاء ..فأمر أحد المخبريين؛ بإجراء الفحوصات اللازمة على نفقته الخاصة ..أظهرت الفحوصات أن خالد يعاني من كل الأمراض الناجمة عن سوء التغذية.
في المدرسة فقد القسم نشاطه وتساءل الأساتذة عن تلميذهم المميز؛ ومر الفضوليون من جانب الركن الذي كان يجلس فيه خالد.. تذكره الجميع في المدرسة كل حسب طريقته الخاصة.
أدرك وقتها أنه إنسان مهم وأن بإمكانه تسخير البؤس ليكون واحدا من أهم عوامل نجاحه.
استمر خالد في المسار ذاته؛ لكن متغيرات كثيرة كادت ان تتسبب في استسلامه للتشرد؛ فالعائلة التي يسكن معها اضطرت لبيع سكنها وللهجرة إلى الداخل للعمل في بناء المنازل الطينية؛ بعد أن أحيل والدها - الذي كان جنديا- للتقاعد .
لم يكن الأمر مشجعا بالنسبة لتلميذ في سنته الأخيرة؛ فكر خالد في جميع الاحتمالات؛ فاستقر أخيرا على العمل بدوام ليلي مع صاحب حانوت في حي شعبي.
تتطلب منه العمل الجديد السهر حتى الثالثة صباحا. نجح التلميذ المجتهد في توفير مأوى؛ لكنه كان على حساب دراسته.
في الأشهر الأخيرة قبل الباكالوريا لاحظ أساتذة خالد أنه فقد نشاطه المعتاد.. ليتطور الأمر إلى شخير ونوم عميق داخل القسم؛ جعل منه بطل مسرحية ساخرة..تسببت في فقدان الأساتذة السطيرة على قسمه نتيجة ارتفاع قهقهات المشاغبين وخروج بعضهم من القسم لينادي زملاءه كي يتفرجوا على مشاهد أصبحت تتكرر يوميا ..سبب هذا الأمر إحراجاً للطاقم التربوي ولإدراة المدرسة اللذين حاولا احتواءالوضع بطرق أخرى تقديرا لتاريخ هذا الطالب المتميز في مؤسستهم؛ لكن خروج الأمور عن السيطرة تطلب إجراءات أكثر صرامة.
استدعاه المدير وطلب ومنه احضار وكيله على وجه السرعة؛ لأن الأمر في نظره لم يعد مقبولاً؛ ولم يكن يعلم أن وكيله رجل مسن يمتهن رعي الغنم في منطقة معزولة في أعالي الجبال؛ ليعيل إخوته السبعة الذين يجتمعون حول أبيهم كل ليلة بالقرب من تلك النار الموقدة ليحدثهم عن أخيهم الذي يعمل في الحكومة منذ 12.