من ذاكرة تلميذ في أحياء القصدير 2 / د.أمم ولد عبد الله

خرج خالد من مكتب المدير حزيناً..رجع إلى صاحب الحانوت الذي يعمل معه هذه المرة في النهار.؛ فوجد جماعة يجلسون  في الجانب الأيمن من الد كان يحتسون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث عن  ذكرياتهم في البادية أوما يسمونه بالزمن الجميل ..قال أحدهم في عام العطش نفقت جميع  الحيوانات بسبب مرض غير معروف؛  وأتذكر جيدا حين قمت انا وشاب جسور يدعى الهكار  بجلب المياه من مكان بعيد على ظهورنا لأشهرة عديدة ..بعد فترة صعبة  قرر معظم ساكنة القرية  النزوح إلى المدينة؛ إلا أسرة  أهل الخالد التي قررت ممارسة الزراعة تحت النخيل. كان هذا في العام 1974 .. لست أدري  هل ذلك الرجل مازال على قيد الحياة  أم لا؛ رفع الراوي رأسه وتقف عن الكلام لبرهة  وقال غريب  ..ذلك  الشاب الذي يجلس هناك فيه الكثير من ملامح الهكار ..أثار الأمر انتباه  خالد  وسأل الرجل الستيني هل أنت واحد من أهل قرية لحداد قال له نعم؛ لكنني  غادرتها منذ أكثر من عشرين سنة ولم اسمعها عنها شيئا بعد ذلك ؛ لقد التقيت منذ فترة بأحد جيراني فيها يقال له احميده ولد التار قال لي وقتها إنه غادر  القرية في نفس التاريخ تقريبا؛ وإنه يعمل حارساً بثانوية تفرع زينه..

ابتمس خالد  وقاطع الرجل ليسأله عن اسم الحارس مرة أخرى فقاله اسمه فلان واعتقد أنه كان صديقاً لأبيك.. 

في الصباح الباكر عاد خالد إلى المدرسة ومعه معلومة ثمينة قد تكون بداية الحل الحقيقي لمشكلته المستعصية..  جلس بجانب   بواب المدرسة؛ الذي صرخ فيه وجهه قائلا ماذا تفعل هنا ؟   عليك أن تدخل لفصلك اوتخرج من هنا وبسرعة ؛ حاول خالد ان يفهمه بان لدبه مشكلة مع الإدارة؛ قاطعه البواب قائلا أنا لست وكيلك ولم يبق من الوقت سوى خمس دقائق؛ ثم رفع صوته مرددا اخرج اخرج ؛ ابتسم خالد وقاله يا احميده ولد التار ..وهو اللقب ذاته الذي كان معروفا به في القرية؛  ربما لاتعرف  انني ابن صديقك وجارك الهكار ولد خالد  الذي فرق بينكما جفاف السبعينيات ..سقط المفتاح من يد الحارس فأمعن النظر في  وجه خالد ..فأعادت  ملامحه ذاكرة البواب  إلى ثلاثة عقود مضت. لم يتمالك نفسه..فانهمرت دموعه على لحيته الكثيفة وجلس واضعاً يديه على رأسه..لمدة عشرين دقيقة تاركا باب المؤسسة مفتوحا على غير العادة..

ثم وقف واحتضن خالد ونظر في وجه واحتضنه ثانية وبكى.

 تجمع التلاميذ حول الحارس منبهرين من حنانه  الفياض؛  فالأول مرة يرونه مستسلماً لمشاعره بهذه الصورة.

سأله عن أبيه وعن  بعض ساكنة القرية. 

جلس حائرا؛ لم يصدق أنه يحتضن ابن بلدته التي انقطعت أخبارها عنه منذ ثلاثين عاماً ...

استعاد احميده  تماسكه وسأل خالد عن مشكلته فقصها عليه بالتفصيل .

أخذ بيده إلى مكتب مدير المدرسة فطرق الباب واذن له  بالدخول ..قال له المدير تفضل يا احميده ما الأمر؟ قال بصوت حزين  هذا التلميذ ابني وأنا  وكيله  .

 نظر المدير إلى الحارس مستغرباً وطرح عليه سؤالاً بأسلوب استنكاري قائلا : لم أفهم قصدك ؟ فهذا التلميذ صار له هنا ثلاث سنوات تقريبا ولم تحدثني يوما في شأنه ..ظن المدير ان التلميذ استعطف الحارس.وربما اتفق معه على امر مدفوع  الثمن ..

وضع المدير نظارته الطبية على المكتب وقال لخالد تفضل .واغلق الباب ليبدأ بفتح حوار اشبه بالتحقيق مع متهم مع حارس مؤسسته. مالعلاقة بينك وبين هذا التلميذ؟ ولماذا تدخلت في قضيته؟.

صارح الحارس مديره بالحقيقة..استمع له جيدا قبل ان يأخذ نفسا عميقا  كاد أن يشطف كل الأوكسجين من المكتب....وقال شكرا لك لقد انقذتني ..كنت سأتخذ قرارا بطرده بشكل نهائي ...كان ضميري يؤنبني في كل لحظة أفكر فيها في اتخاذ هذا القرار ليعيد علي طرح السؤال ذاته مرات عديدة خلال الثانية الواحدة. لماذا تنهي مستقبل انسان بهذه الوحشية وأنت  تعلم علم اليقين أنه تلميذ متميز؟ 

خرج المدير مسرعا من مكتبه ينادي خالد.. خالد تعالى هنا اخذ بيده وادخله في القسم ..

بعد نهاية الحصة أخذه الحارس جانبا ..وقال له يا خالد اسمح لي سأحدثك  بصراحة.قالها  والعرق يتصبب من جبينه خجلا؛  أنا اسكن مع أسرتي التي تتكون من خمسة أفراد  في غرفة واحدة لا تسعنا جميعا؛ ولدي عربتين "شاريت" ستعمل في إحداهما مقابل ألف أوقية في الأسبوع وسأبحث لك عن منزل قيد البناء لتتولى حارسته كي تحصل على سكن بالمجان.

 وافق خالد على هذا العرض الذي اعتبره مغرياً واعتذر من صاحب الحانوت ..ليبدأ ببيع الماء الشروب على عربة تجرها الحمير من الخامسة مساءً حتى العاشرة  ليلا.ً.

وجد في العريش المخصص لحارس  المبنى المكان المناسب لمراجعة دروسه فحوله إلى مكتبة؛ كان يشتري كل أسبوع كتاباً جديدا  ..استعاد نشاطه داخل الفصل واستمر في الجمع بين الدراسة والعمل .

استطاع ان يحصل على المرتبة الأولى في الباكالوريا شعبة الرياضيات على المستوي الوطني ..سمع أبوه اسم ابنه في البلاغات الشعبية؛ففرح بالأمر كثيرا. بعد أيام على النتائج  استدعته  السفارة الألمانية ليكمل إجراءاته للحصول على منحة دراسية في إحدى الجامعات الألمانية؛ طلب منه الموظف  عنوانه الصحيح ..لم يستطع إجابته فأعاد عليه السؤال بصيغة أخرى في اي حي تسكن ؟ قاله انا أعمل حارسا لمبنى في تفرغ زينه ..ردد الموظف الجملة مستغربا تعمل حارسا لمبنى في تفرغ زينه !؟ ..معناه أن المعني شخص آخر.  بابتسامة مصطنعة اعتذر الموظف لخالد  عن  الازعاج وأمره بالخروج

عاد خالد إلى عريشه متسائلا مالذي يريده هذا الرجل  بالضيط  ولماذا لم يمنحني تذكرتي للسفر لبرلين ؟ مضى أسبوع على استدعاء خالد دون ان يحصل على جواب...  بعد بأربع وعشرين ساعة تولت السفارة الألمانية  عملية التدقيق في هُوية التلميذ الذي استحق تلك المنحة فإذا به هو خالد نفسه ..قامت الجهات  المعنية في السفارة بزيارة ميدانية للعريش الذي يسكن فيه ..فشاع الخبر بين ساكنة الحي .تفاجأ صاحب المنزل من الأمر؛ فما كان منه إلا ان اعتذر لخالد .. ومنحه راتب أربعة أشهر 60 ألف أوقية  ؛ رجع  خالد إلى حارس المدرسة وشكره على جهده وقرر الذهاب إلى  أهله؛ حيث استقبل استقبال الأبطال. بقي هنالك طوال العطلة الصيفية يساعد ذويه في نشاطهم اليومي ..قبل أن يبدأ  رحلة أخرى من صناعة النجاح بطعم المعناة...يتبع 

 

30. أغسطس 2021 - 20:27

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا