إنهم عقوقيون لا حقوقيون .. ملاحظات حول البيان / الشيخ ولد بلعمش

لم أشأ التسرع في التعليق على بيان المنظمات الحقوقية فالتثبت والموضوعية يظلان أسلم للحكم و الضمير والآن أسجل الملاحظات التالية :

يستهل البيان بعد ذكر الحدث الموجب له قائلا: (وبسرعة أُوقِـــف تقدم المعتدين؛ فتنفس سكان الجنوب الصعداء، ولاح الأمل لسكان الشمال والوسط في التحرر قريبا. وقد حيـّـى المجتمع الدولي اللفتة المخــَـــلــّـــصة لفرنسا، وطالب بانتشار عاجل لتحالف دولي في مقدمته جيوش من القارة خاصة قوات تجمع دول غرب إفريقيا واتشاد. )

تبدو الفقرة مهتمة بأن يتنفس سكان الجنوب الصعداء وهو أمر جيد بالنسبة للجميع حسب اعتقادي لكنَّ إغفال ذكر اهتمام الموقعين في استهلالهم بتنفس أهل الشمال الصعداء على غرار إخوانهم الجنوبيين هو إغفال موحٍ بتخندق الموقعين في صف إثنية من الشعب المالي الشقيق دون بقية المكونات وهو أمر يُعاب على منظمات حقوقية أما الأمل الذي زعمت منظماتنا الحقوقية أنه لاح لأهل الشمال و الوسط فلا أعرف كيف رأوه أهو سراب رآه التائهون خوفا في عرض الصحراء أو أوهام اللحظة الأخيرة لشيخ ألقي به في الجب؟

و تصف الفقرة فرنسا بالمخلِّصة و هو قول لم ينهض بعدُ له دليلٌ و وصف ذو إيحاء ديني دخيل على المنطقة.

يقول البيان (وفضلا عن أنها حرب تسعى للقضاء على الإرهاب، فإن المعركة في مالي تشكل فعلَ مقاومة تأسست عليها الشعوب السوداء أمام محاولة تغيير نمط حياتها بالقوة المفرطة في العنف.*)

في هذه الفقرة بذرة إدانة لانخراط المجتمع الإفريقي في دين الإسلام كما أن العبارة تستحضر بسرعة لافتة صراعا عرقيا آثما و كأنَّ أولئك نسوا أن جماعة بوكو حرام ليست من مضر و لا نزار أو كأن أولئك نسوا التفاعل الإيجابي بين عناصر المنطقة على أساس الدين فإن كانوا في شك من ذلك فلينظروا إلى عبَّارة النهر أيام المواسم الدينية ، و لقد كان الموالي السود أئمة لهذا الدين في قرونه الأولى و عنهم أخذ جهابذة الأمة الفقه و الحديث و التصوف ، ولم يكن هذا الدين يوما عنصريا ، حتى غلاة الدين لم يميزوا بين ضحاياهم يوما على أساس اللون ،

يستخدم البيان عِبارة( تغيير نمط حياتها) و هو توصيف مبهم فلا نعلم نمط حياة لهذا الجزء من إفريقيا إلا الإسلام و كان حريا بالموقعين أن يسموا الأشياء بأسمائها فلولا هذا الدين لبقي العرب والأفارقة في جاهليتهم و جهلهم عباد أوثان فليُجب أولئك الموقعون بشكل واضح على هذا السؤال :هل كان تغيير الإسلام تاريخيا لنمط حياة أهل هذه المنطقة نعمة أو نقمة ؟ ثم ما علاقة صراع بين حركات إسلامية راديكالية و نظام دولة مالي بأسئلة وجودية كهذه ؟ أيكون ما حدث فرصة لكي تُظهر لنا الأيام حقائق عنكم لم نكن نصدِّقها ؟

يواصل البيان فيقول (*والحقيقة أن المشروع السلفي في إفريقيا جنوب الصحراء، تلوح وراءه رؤية جامدة للعالم وللإسلام، رؤية متزمتة تمنع أي اختلاف تمايزي. يتعلق الأمر هنا بصب الحياة في قالب واحد، وقتل كل قدرة على التفكير والإبتكار. فهنا لا يوجد مكان للمساواة بين الجنسين، ولا يوجد مكان للفن، ولا لمتعة العيش، ولا لروح النقد.)

الحقيقة أن هذا الكلام فيه تعميم ظالم فأية سلفية تقصدون ؟

سيظهر من خلال البيان أنكم تقصدون صبغة الإسلام لا منهجا فكريا و حتى المنهج الفكري ذاك يشكل طيفا عريضا من الأمة يتمايز في الرؤية و الأسلوب و التطبيق .

و يضيف أولئك (*إن المدينة الفاضلة، التي يبشر بها مقاتلو الوهابية الجديدة، لا تزدهر إلا على أنقاض العادات والثقافات الإفريقية؛ من خلال مسلسل تعريبي غادر يطبعه ترويع الجماهير واقتلاعها من جذورها. إن التبعات الفعلية للمسخ المنشود حاليا تؤدي إلى التحجير على المرأة وإقصائها من الشأن العام، والعودة الممنهجة إلى تطبيق حكم الإعدام، وتتفيه عمليات البتر. *)

في تلك الفقرة يتضح أنهم مصممون على إقحام قضايا لا علاقة لها بالحقيقة فعبارة مسلسل تعريبي غادر تعني نقدا لمراحل تاريخية سابقة و هي تحمل غلا دفينا سببه دخول الآباء في دين الإسلام و يقتنص البيان فرصة إقامة تلك الحركات الراديكالية للحدود ليبث على نفس التردد الذي ينفث عليه أعداء الإسلام سمومهم و هو تردد يدغدغ عواطف الرحمة البريئة بخصوص إقامة حدود أشك أنَّ مطبقيها يفهمون الفقه أو يعملون به فالحد يدرأ بأبسط الشبهات و المبحث طويل عريض ،إنها أحكام ربانية نؤمن كمسلمين بأنها الأصلح و نقول سمعنا و أطعنا ، قد نفهم اجتهادات تنسحب على أغلبها كاجتهاد عمر عام الرمادة ، لكن رفضها و القدح فيها زلل عظيم ، و من لم يطبق أي حكم و سكتَ خيرٌ عندنا من الذي لا مسئولية رسمية له و مع ذلك لا شغل له إلا ثقافةٌ سترديهِ بتتفيهِ أحكام اللطيف الخبير.

إن الرضا بتطبيق الحدود هو اختبار لإيماننا و نحن أقل الأمم محنة و بلاء فلم تكن التوبة يوما إلا قتل النفس فهل كان هؤلاء سيكونون من التائبين لو لم ينزع الله عنا الإصر و الأغلال التي كانت على من قبلنا ؟

لقد فتح رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم الباب واسعا للتعلل أمام الآتين إليه معترفين بذنبهم لكن أولئك كانوا أكثر إيمانا منا بيوم الجزاء و أهواله فما قبلوا إلا تطهيرهم و عندها أقام رسول الرحمة حدودا شرعها أرحم الراحمين .

إن إقامة الحد تتطلب يقينا لا يرقى إليه شك باقتراف الذنب فهل طبق الذين أثاروا حفيظة هؤلاء الحقوقيين الإسلامَ كما ينبغي و هل فكرت تلك الحركات الراديكالية بالإسلام و أهدافه السامية الكبرى و ما يترصده من أعداء و حاقدين .

و على أية حال فرفض حكم شرعي معروف أو سبه هو تناقض مع الإنتماء للإسلام ، صحيح أن هذا العصر بحاجة إلى مسلمين عقلاء يفهمون ما حاق بالمواطن من غبن و حيف قد يدعو القاضي المسلم إلى أن يعذر الجاني و له في ذلك سلف من هذه الأمة ، و لكن نبذ ما أُنزلَ إلينا وراء ظهورنا هو نفاق للغرب الذي لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و غفلة عن بطش ربنا الشديد .

و يبدأ هؤلاء العقوقيون لا الحقوقيون في إسقاط آرائهم الخاطئة على الواقع الموريتاني فينتقدون ارتداء النساء الموريتانيات للحجاب و هو حق فردي للمرأة تكفله قوانين الأرض و شرائع السماء و يذكرون بنبرة انتقادية جمعياتهن المعزولة عن الرجال مطلقين تهمة التكفيرية على العموم في تبليغ كيدي لا يخفى والحقيقة أن أصحاب الغلو و التشدد في بلدنا قليلون ، لكأن أولئك بالتعميم لا يرضيهم إلا الخلط و الاختلاط و يبدأون في انتقاد أية حرية إعلامية تمنح للوعاظ أو حرية مظهر و تطبيق للملتزمين و يبدوا أنهم يصفون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالتأثيم ، إنهم يصفون دين الأمة و يسمونه الإسلاموية ثم يهجمون ، و الحقيقة أن ديننا ليس حكرا على تيار إسلامي فإن أردتم انتقاد ذلك التيار فلا تنتقدوا الدين ، و إن أردتم انتقاد الدين فلا تسموه باسم ذلك التيار .

و يتحدانا العقوقيون من جديد و يتهمون كل من وقف ضد حرق بيرامَ لكتب الفقه يومها بنزعة عرقية و الحقيقة أن أسوأ مناضل يدافع عن أعدل قضية هو بيرام ، لقد زاغ الرجل و ذلك حقه لكنه لا يرضى منا إلا الزيغ معه فياعجباً !

و حتى لا نبقى في شك من شططهم في الحكم و التصور يساوون بين كل المذاهب و يصفونها بالسلفية فكل من لا يقبل التسيب و الانحراف هو سلفي بزعم أولئك و يبدوا أنه لا فرق عند هؤلاء بين أية دعوة دينية و استعلاء عرقي.

وبعد إدانة كل من وقف ضد التدخل الفرنسي و في تقية لا تخطئها عين البصير يدعو البيان حكومتنا إلى العناية و التعاون الكامل مع ما أسماه التحالف الدولي ثم يضع البيان أخيرا قناعا خفيفا لئلا تنكشف حقيقة ما وراء الأكمة محذرا من التصفية العرقية ضد العرب و الطوارق أثناء استعادة الأرض و مع ذلك نلاحظ أن البيان لا يقر بأن الشمال أرض العرب و الطوارق و لعمري إنه لكذلك و هذا لا يمنع قبولنا أو قبول أصحاب الأرض بسيادة دولة مالي على تلك الرقعة .

و هكذا يسفر البيان عن وجهه فنفهم أنه يدعو إلى تشكيل ميليشيات لمكافحة خصومه الوهميين و هي فكرة لا تخدم السلم و لا السكينة الاجتماعية و إلا فما معنى أجهزة الدولة المكلفة بتوفير الأمن للجميع أيا كان رأيهم و موقفهم .

ثم يدعو البيان إلى ما أسماه آليات الأصالة الثقافية و نلاحظ أنه ما دعى إلى الأصالة و إنما إلى آلياتها و هي دعوة لم أفهم مغزاها جيدا و لامناسبتها ، و ينسون أن المحظرة و الفقه المالكي من أصالتنا الثقافية أيضا .

عموما لا يملك المرء إلا أن يحس بالأسف لمثل هذا الخطاب الرافض للتعايش المُصرِّ على اتهام الدين الذي هو أهم مقوّم للوحدة الوطنية بأنه جسر احتلال أو مسخ .

لقد تعاطفنا كثيرا مع كل مستعبد و مظلوم في هذه الأرض لأن ذلك حق أصيل لا منَّةَ فيه و لا محاباة و لكننا الآن نؤمن أن للسيد بيرام مشروعا خاص لا علاقة له بجوهر القضية الحقوقية ، و لقد أتيحت لي فرصة سماع كلام السيد أبي بكر ولد مسعود و بدا لي كلامه صادقا و منصفا فكنت أتعاطف معه و أعول عليه لكن صاحبه سحبه في هذا البيان .

لا أحب الاتهام و لكنه ليس بيانا بريئا على كل حال .

كم أتمنى أن يقود الدفاع عن قضية المستعبدين و الأرقاء السابقين رجل منهم وطني نزيه .

7. فبراير 2013 - 23:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا