منذ الشهر الثالث من العام الماضي دخلت بلادنا في حيز العمل الفعلي على مواجهة جائحة كوفيد-١٩، فأعلن رسميا رزمة من القرارات الهامة في مواجهة الجائحة، والتي كان من جملتها قرار بحظر جزئي للتجول خلال ساعاتٍ ليلية، زادت تعداداً ونقصت تبعا لوضعية الوباء.
هذه الخطوة المهمة شكلا ونتائج مرجوة رغم تجاوزها في حق حريات المواطنين المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ قوبلت بتفهم شعبي وتعاط جيد، لكن مع الوقت بدأ التأقلم يقل، لكثير من الأسباب والعوامل، لعل أهمها أن خاصية العمومية والتجريد فُقدت روحا وحقيقة خلال عملية تطبيق القرار في فترات زمنية معينة، وهو ما عاد بالسلب على نتائج القرار وعلى تناغم المواطنين معه.
هذا الواقع الظاهر لكل مهتم بالحقوق والحريات في الوطن؛ يطرح عديد التساؤلات بدءا بطبيعة الحظر الدستورية أصلا، مرورا بمدى تأثر أجيال الحقوق الثلاث بهذا الإجراء خلال الفترة السابقة، وصولا لوضعية متابعة الدولة واهتمامها بمعنى وتبعات الحظر كقرار سالب لحريات دستورية مؤثرٍ على حياة المواطنين سلبا، وعن تبعات عدم تطبيق القرار بعمومية وتجريد.
ولعل المقام وعنوان المقال يحيلان بديهيا لمناقشة التساؤل الأخير، ورغم أنه أقل علمية من كل التساؤلات المرافقة؛ إلا أنه معضلة الواقع، وعامل مؤثر سلبا على حريات سُلبت معنىً ومبنى، فمورس على المواطن حق الدولة في سلب الحرية وفق التشريع وتحقيقا للمصلحة العامة، و"استُعبد" حين لم يكن ذلك الحق مُمارسا وفق آلية دستورية رصينة تكفل تساوي المواطنين في تبعاته.
ويظهر عدم التساوي في التبعات عند النظر من عدة زوايا متعلقة أساسا بالحريات محل الحديث، وعلى سبيل المثال والتخصيص:
-في مجال حرية التنقل المكفولة بموجب المادة ١٠ من الدستور الوطني، والمادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية:
وقبل الاستفاضة يحسن أولاً النظر لطبيعة ومعنى حظر التجول المقصود، كأداة مقيدة لحرية التنقل، وحسب مذكرات العمل والبيانات الحكومية في البلاد؛ يفهم أن الحظر المُعنى وطنيا هو ذات الحظر بمعناه العام، أي "منع الناس من التحرك في طرق البلد أو التنقل فيه، لظروف استثنائية، لمدة زمنية معينة، من قبل من له السلطة بذلك"، وانطلاقا من هذا التعريف ومن التعليمات والمقررات الإدارية المنشورة وتأسيسا على معطيات الواقع؛ يلاحظ المتتبع؛ أن التنقل خلال الفترة الماضية لم يكن مضبوطا بضوابط تلزم الجميع باحترامه على أساس العمومية والتجريد.
فظهرت مظاهر غير مرضية، كالتجول -غير المبرر في حيز الاستثناء- لحاملي البطاقات المهنية والعسكرية، بشكل فج، واستمرت أزمتا: "أنا ابن"، و "هاكَ الهاتف "، ومنعت الأجهزة الأمنية من متابعة المخالفين على الطرقات العامة، ولم تُمكن من أدوات تساعدها في ضبط تنقل الأفراد الراجلين المخالفين للحظر.
-وعلى مستوى الحق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبشكل أبشكل أكثر تخصصا، على مستوى حرية العمل؛ تؤكد المادة ٦ من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن "لكل إنسان الحق في العمل"، وأن "لكل شخص الحق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية"، وأن الدولة "تقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق.".
ومع تتبع الأحداث يوميا؛ نشاهد خلال تطبيق الحظر عديد حالات التنافس غير الشريف المسموح بها خلال فترة الحظر والتي تكون عادة على مرأى ومسمع من الجهات المكلفة بتطبيق قرار حظر التجول، على سبيل المثال:
•تعمل شركات النقل العصري داخل العاصمة خلال أوقات الحظر، وتطبق رسوم رحلات مضاعفة على مستقليها، ويكون عملها علنيا عبر استقبال المكالمات على الأرقام الرسمية للشركات، بينما تمنع الشركات الأخرى الربحية من مزاولة أعمالها، ويحظر على المواطنين العاديين مزاولة مهنة التاكسي علنا خلال فترة الحظر.
• يتم إنزال العقوبة بكل مخالف للحظر يفتح متجره، في بعض الأحياء الشعبية، وهو سلوك مبرر وخطوة في محلها، بينما على قارعة أحد أهم الشوارع في البلاد وأكثرها حيوية -شارع الشيخ زايد بن خليفة رحمه الله- تفتح بعض الحوانيت أبوابها، وكذلك سلوك أصحاب المتاجر الواقعة داخل عديد أحياء العاصمة.
وأمام هذه التأثيرات غير المتجانسة لتطبيق حظر التجول على المواطنين؛ ظهرت إشكاليات حقوقية واجتماعية تحتاج الانتباه:
-ظهور تفاوت بين طبقات المجتمع بشكل ترعاه الدولة، حين أُخرج مفهوم الطبقية الاجتماعية من في حلة رسمية، فتوزع المجتمع؛ لطبقة عليا "يراعي القانون حقوقها"، تتجول وتعمل خلال فترات الحظر بسند شرعي أو بدونه. وطبقة تحمل هوية المواطنة من الدرجة الثانية، يرضخ ابنها للأمر الواقع، ويطبق عليه القانون بكل شفافية، ويعاني تبعات الحظر السلبية.
-ومع استمرار الحظر وطول أمده باتت تستدعي حالة جل المواطنين الاقتصادية التنبه لمسؤولية الدولة عن تبعات قرار الحظر، وضرورة تقديم يد العون لأصحاب الحالات الأكثر تضررا، وعند الإمكان تخفيف زمن الحظر حتى تقل التبعات. وذلك نظرا لعديد العوامل التي تلحظها الجهات المختصة أكثر من غيرها.
ومع ذلك ورغم الملاحظ على طول أمد حظر التجول، وكذا ضغط الحالات التي يحسن التنبه لها والمتعلقة بمساس غير مريح بحقوق أساسية ودستورية؛ يبقى المبدأ أن السلوك الذي تقوم به الدولة قصد تحقيق مصلحة عامة صرفة؛ يحوز مستوى عاليا من التقدير والاحترام، وينبغي أن يحظى بتفهم كبير لهامش تبعاته السلبية، قصد تحقيق الهدف الأسمى.