ماحَدَا بي إلى تَحبير هذه السّطور إلا حالة من التّوجس والغيرة ،كلما أمعنت النّظر فى فاصلة الزّمن منذ الإستقلال إلى يومنا هذا..! التّوجس من قَادِمِ الأيّام ومآلات المستقبل ،والغيرة والتّحسر كلّما تذكرت قصيدة من الفصيح لأخي الشقيق النّهاه ،(الغائب فى أوكرانيا) جَادَت بها شاعريته منذ ثلاثين سنة،تقول بعض أبياتها :
ألاَ يا رمالَ التّل وَيْحَك أفصحي
أَضَمت ثَناياكِ القديم من المجد.
فجاء حمام الأَيْكِ يُودِعُكِ الأسى
ويبكي زمان العزّ فى سالف العهد.
كان شاعرنا يستنطق رمال التّلال ويستأنس بحمائم شجرة الأيكة ويتباكى على مجد الأسلاف،مُدْرِكًا أنَّ متلازمة البيئة والإنسان ،فطرية أزلية وحتمية فى أَيَة ِ مقاربة تنشد تعمير الأرض والإرتقاء بالأمة ...! لكن أين نحن من ذلك كلّه؟ هل بلغة الأرقام نحوز وطنًا؟ ماهو موقعنا فى ترتيب الدّول ثقافيا و إقتصاديا وعلى مستوى البنية التحتية؟ كم بَنَيْنَا من الجسور وناطحات السّحاب؟ هل شَقَقنا طريقا سيّارًا واحدًا (سريعا)؟ هل نملك علامة تجارية (ماركة)مسجلة بإسمنا؟. كم عدد الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية عندنا؟ كم من المؤلفات و الكتب ودُورِ النشر والدوريات العلمية فى بلادنا ؟ وبلغة الرّمزية التاريخية و البصمة الثقافية ,هل نمتلك سورًا مثل سُور الصّين العظيم أو ساعة بِيجْ بَنْ فى لندن أو تِمْثال الحرية فى أنيويورك أو برج إيفل فى باريس أو أهرام الجيزة أو قصرًا مثل الحمراء فى قرناطة ......؟
فى كل بقاع المعمورة ،هناك شواهد أثرية وتاريخية تعكس إرتباط الإنسان بِأديمِ أرضه وتبرز الوجه البارز من ثقافته وحضارته ...! وليست وادان وولاتة وشنقيط وتيشيت وباقى المدن الأثرية إلا شواهد حيّة على نضج ونُبْلِ الأجداد وعبق التاريخ والإشعاع الفكري والثّقافي الذى سطّروه محليا وكَسُفَرَاء فى بلاد المشرق والمغرب لِيَسْتَحَالَ(يتحول) إلى دهاليز المكتبات فى رُفُوفٍ من خشب ،قابعا فى عَالم النسيان والإهمال إلا من بعض المجهود المشكور لوزارة الثقافة وملحقاتها واليونيسكو فى إطار مبادرات تطوير التراث العالمي البشري ،المادي واللامادي، وهو مجهود لم يصل درجة الإشباع ...!
فى سنة ١٩٩٧م كنت فى زيارة رسمية مع خبير من الأمم المتحدة (كندا ) لمدينة ولاتة ،بعد إتمام العمل عَرَجْنا على المكتبة وبعد تصفح الزائر لبعض المخطوطات ،إِنْبَهَرَ وقال كلمة بعد أن أَدْخلَ فى صندوق التّبرعات مبلغًا قال :لو سمح لي الوقت لَقُمْت ُ بترجمة هذا الكنز الدّفين لتستفيد منه البشرية...! كانت تلك الكلمات بمثابة رصاصة أخترقت كرامتي وشرفي وكبريائي ودَفنتها فى عقلي الباطن....! كم كان حجم الضّياع مُجَلْجِلا عندما توقفت مسيرة العطاء والإشعاع الفكري وإنقطع حبل التّواصل مع الأسلاف فى ظاهرة أقرب ما تكون إلى العقوق الفكري إِذْ بالكاد لم تعرف حركة الترجمة الوطنية نشاطًا يوازي حجم الإنتاج الفكري الأدبي المخطوطي للأجداد ،مِمّا نرى أنّه أرخى بظلاله على معركة تأكيد الهوية و خَلَقَ تربة خصبة للمد الفرنكوفوني الإستيلابي(فى بعده غير الّتنويري) وظهرت دعوات تغمز فى الجذور حيث أنّ حاضر الأمة لم يكن إمتدادا لِمَاضِيها.....!
يقول أحد السّياح: فى بلاد شنقيط ،لِكَي تقتني قطعة إثرية من التراث ،عليك بالأسواق وبَاعَة الرّصيف لا أن تُيَمِمَ وجهك شطر المتحف الوطني ...! كيف يضيع تاريخنا بهذا الحجم من بين أيدينا؟ ألسنا بذلك نقتلع إرثنا الثّقافي ونطمس الموروث؟ لقد آن الأوان أن ندخل الإعتبارات الثّقافية والتاريخية فى صميم المجهودات الموجهة للتنمية والنّهوض بهذا البلد...!
لماذا فى بلادي تغيب البساتين والمروج الخضراء ولاتوجد فى مناكبها الغابات ؟ أين الأشجار والنباتات والأنواع البرية من الحيوانات والطّيور التى تَنَاهَت إلى أسماعنا فى حكايات الجدّات أوقات السّمر ؟ أين الظّباء والمَهَا والغزلان وأين الحبارى؟ لقد دفعنا غاليا ثمن غياب التّدابير الإجرائية وتفشي ظاهرة الصّيد البري الجائر وقطع الأشجار الفاحش والإستيطان العشوائي حيث تغير الطقس وتَبَدَل المناخ وساءت معدلات الأمطار وتصحرت الأراضي وأَسْتَوطَنَ الجفاف وتوارى الغطاء النّباتي حتى فى منطقة العطف التى كانت فى الأمس القريب مخزونًا رعويا ومهجرا للطّيور وتزخر بجميع الحيوانات البرية والغابات ...!
إلى من نُوكِلُ أَمْنَنَا البيئي؟ أليس العبث بالطبيعة جريرة ندفع جميعا ثمن تداعياته المدمرة ؟
إنّ البيئة هي الإطار الذى نعيش فيه ونحصل منه على مُقوِّمات حياتنا ولن نتمكن من إشباع حاجياتنا إلا من خلال إستغلال موارد البيئة بطريقة عقلانية تراعي قواعد التّنمية وتُدخل فى حساباتها أجيال المستقبل.
فهل سَنُلَمْلِمُ أوراقنا ونُقِيلُ العثرات لِشقّ طريق المستقبل أم أنّ كَوْمَة الحَصِيد ستبقى جاثية فى المسير ،كَأَنْ لم نَغْنَ بالأمس.