يعتبر القطاع الضريبي أحد أهم المصادر الاقتصادية التي تعتمد عليها الدولة في تغطية النفقات وتحصيل موارد الخزينة العمومية، وتمثل عادة نسبة مرتفعة من الإيرادات السنوية في أغلب الاقتصاديات العالمية، كما تشكل أداة فعالة في وضع الاستراتيجيات الاقتصادية وانتهاج سياسات التوسع أو الانكماش في المجال الاقتصادي.
ففي حين تهدف سياسة التوسع إلى تحفيز النشاط الاقتصادي بتخفيض الضرائب المباشرة وغير المباشرة لرفع الطلب على السلع والخدمات، تقوم سياسات الانكماش بكبح النشاط الاقتصادي برفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة لتخفيض معدلات الإنتاج والاستهلاك وبالتالي تراجع الطلب العام على السلع والخدمات، وهو ما يؤدى إلى خفض مستوى الأسعار.
وهنا يبقى التوازن مطلوبا للحفاظ على توازن السوق والحفاظ على ثبات الأسعار بالتحكم في معدل التضخم وتوازن العلاقات التجارية مع الخارج، كل ذلك مع السعي الحثيث لتحسين مناخ الاستثمار وتحفيز النشاط الاقتصادي عن طريق رفع معدلات النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل للقضاء على البطالة.
وكما أن ارتفاع أو انخفاض معدل الضرائب يؤثر بشكل فعال على أداء الاقتصاد، فإن نظام هذه الضرائب وسبل دفعها وطريقة احتسابها وتسهيل طرقها الإدارية تشكل كذلك عاملا مهما في مجال تحسين مناخ الاستثمار" Doing Busines"، ومستوى جاذبيته للاستثمارات الأجنبية المباشرة (IDE).
وفي السياق الموريتاني أدت هذه الإشكاليات خلال الآونة الأخيرة إلى نشوب عدة نزاعات مع المستثمرين ورواد الأعمال الوطنيين والأجانب، ما أدى إلى مغادرة بعض هذه الاستثمارات والدخول في منازعات قضائية مع البعض الآخر، وهو ما يؤدي في كل الأحوال إلى التشويش على مسار تطوير مناخ الاستثمار الذي انتهجته الحكومة خلال السنوات الماضية وتمكنت من تحقيق خطوات متقدمة في هذا المسار.
ورغم انخفاض معدل الضرائب في موريتانيا مقارنة بالدول المجاورة، إلا أن أغلب هذه الإشكاليات تتعلق غالبا بطريقة الدفع وترتب المبالغ الضريبية ونمط احتسابها، وفقا للنظام المعتمد لدى الإدارة الوصية، فضلا عن ضبابية القنوات الاتصالية بين المستثمرين والجهات الوصية في الإدارة العامة للضرائب، وهو ما يشجع بشكل كبير على تدخل الوسطاء لتوفير فرص التهرب الضريبي.
كل هذه الأسباب جعلت البنك الدولي يصنف موريتانيا في المركز 178 عالميا من حيث تعقيد نظام دفع الضرائب، معتبرا أن هذه الإشكالية هي أكبر العقبات التي تعيق تطور موريتانيا في تصنيف مناخ الاستثمار " Doing Busines" الذي يصدر بشكل سنوي عن هذه المؤسسة المالية الدولية.
وأكد البنك الدولي في تقريره للعام 2020 على ضرورة اعتماد إصلاحات جوهرية في هذا المجال لتسهيل النظام الضريبي من خلال تقديم الامتيازات للمستثمرين ورقمنة كافة الإجراءات الإدارية في هذا المجال واعتماد آليات مبسطة لضمان التنسيق المحكم بين الشركات الخصوصية والمصالح العمومية للضرائب.
وقد شهدت موريتانيا خلال الآونة الأخيرة نشوب عدة نزاعات في هذا المجال، من أهمها؛ النزاع المعروض حاليا أمام المركز الدولي لتسوية النزاعات في مجال الاستثمار، بين الحكومة الموريتانية وشركة نحاس موريتانيا، بخصوص بعض الضرائب التي تقول الشركة إنها غير معنية بها، نظرا لإدخالها على نصوص قانونية لاحقة على اتفاقيتها مع الحكومة.
كما أدى عدم توضيح نظام الضرائب المُطَبًق على استهلاك "تازيازت" من المحروقات إلى نشوب نزاع بين الشركة والحكومة، تمت تسويته مؤخرا ضمن اتفاقية شاملة لحل عدة مشاكل مالية وقانونية كانت عالقة بين الطرفين.
وفي هذا الإطار أيضا شهد قطاع "البنكرينغ" نزاعا بين الشركتين المزودتين لموريتانيا بالمحروقات وإدارة الضرائب بشأن طريقة احتساب الضرائب في المجال، وهو ما أدى إلى انسحابهما من القطاع خلال الأشهر الستة الماضية، لتصبح شركة "آداكس أنيرجي" المورد الوحيد للمحروقات ولأول مرة في الأسواق الموريتانية.
تكرار مثل هذه النزاعات في الأسواق الموريتانية، سيؤثر بشكل حاد على المسار الذي تكرس له الحكومة حاليا جهودا كبيرة، من أجل تطوير مناخ الاستثمار وجلب رؤوس الأموال ومبادرات ريادة الأعمال، خصوصا مع الاكتشافات الأخيرة من الغاز الطبيعي وتوسع مجال استغلال المعادن وانطلاق برامج الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة عموما والهيدروجين الأخضر بشكل خاص.
إن هذه الهواجس والإشكاليات يجب أن تكون في مقدمة أولويات الهيئات المشكلة من طرف الحكومة والمتخصصة في مجال تحسين مناخ الاستثمار، وذلك بوضع سياسيات محكمة وقابلة للتنفيذ، للقضاء على كل أسباب نشوب مثل هذه النزاعات بين المستثمرين والإدارات الوصية.