وهذا ما يؤكده ابن خلدون بقوله:
" اعلم أن ثمرة هذا الفن (أي البيان) إنما هو فهم إعجاز القرآن ".(42)
السبب الرابع: أن متن هذه اللغة ، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقيلة على السمع المتجافية عن الطبع.
ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذالك إلا نادرا في لغة قريش.
ويستدل البوطي على هذا بقطعة من نص نثري كنموذج لكلامهم في الجاهلية أو كلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية وهي كلمات قالها أعرابي .. يستجدي مالا؛
(أما بعد فإني امرؤ من الملٌطاط الشرقي المُواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون مُوحٌش، فأجٌنًبت الُذُرى وهمشت العُرى وجَمشَت النجم وأعجًت ألبهم، وهمًت الشحم،
والتًحبت اللحم و أحٌجًنت العظم ، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا و الضًهيل جَراعًا، والمقام ًجعٌجاعًا، فخرجتُ لا أتلفَّع بوصيدة.، ولا أتقًوت بمهيدة، فالَبخَصات وقعة والركبات َزلَعة، والجسم مُسَلٌهمٌ،والنظر مُدٌرَهمٌ، فهل من آمر بَمٌبر أو داع بخير" (43)
فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه.
ومرد ذالك إلى أن لكلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز في صياغتها وموقع كل منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الأذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذالك تحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدروس. فكان من أثر ذالك أن انصرفت الأذواق إلى الاستفادة من كلماته والجديد من صياغته، وهجرت تدريجيا ما استثقل وغلظ من الألفاظ والتراكيب".
وبمقارنة بسيطة بين نص أدبي من العصر الجاهلي وآخر من العصر الإسلامي يتضح لك دور البلاغة القرآنية في كل من الأسلوب والجمل والكلمات.
وكان للإسلام فضله على اللغة العربية أيضا بالإضافة إلى هذا كله في اشتراطه للتعبد بها. مما جعل الملايين من الشعوب الإسلامية حتى غير العربية تحاول أن تتعلم اللغة العربية, ولو بالقدر اليسير الذي يمكنها من قراءة الدعوات وبعض السور القصار من القرآن الكريم، وهذه الشعوب إن لم تجد اللغة العربية، فهي دائمة التشوق إليها من غيرها.. " فقد انتشرت في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، واقتبست لغات عدة نسبة عالية من مفرداتها، ولم يقف انتشارها عند ذالك الحد، بل إنها تزدهر اليوم في معظم بلدان العالم من خلال انتشار الإسلام فيها، وتطلع المسلمين إلى تعلم لغة القرآن الكريم، ليعرفوا دينهم ويتفقهوا فيه "(44)....يتواصل.....