يحظى الخطاب الافتراضي باهتمام كبير من قبل المختصين في اللسانيات؛ لكونه بحسب الدكتور يحي بوتردين يحمل " نظرة جديدة لقضايا اللغة والكتابة والقراءة ومكانة المؤلّف والقارئ باعتبارها جميعا تحمل دلالات خاصة لدى الجيل الجديد؛ مغايرة لما كانت عليه لدى الأجيال ما قبل الثمانينيات من القرن الماضي".
في هذا العالم الذي يغتال فيه ثالوث مكون من النص والمؤلف والقراءة يتم إنتاج "المعرفة" عبر سلسلة من الأفكار التي تحرض الفرد على أن يكون جزءا من عملية تفاعلية تتجاوز كل الحدود المتعارف عليها في أدبيات المؤلفين وفي مسألة التناص وغيرها...
المؤسف أن التحدي الحقيقي يكمن في مدى قدرة هذا العالم المفتوح على التمييز بين التفاهة وبين المواضيع الجادة التي تخدم المجتمعات والدول.
والمثير للاستغراب بحسب المراكز المتخصصة هو أنه كل ماكان موضوع النقاش تافها؛ زاد ذلك من عدد المتفاعلين معه عبر العالم .
فالكاتب : إكرام لمعي يرى أن فن صناعة "الوعي الغبي" متجذر لدرجة أننا يصعب علينا التفريق بين الفيلسوف والصحفي المبتدئ؛ لهذا صار الصوت الأعلى في مجتمعنا هو صوت الأغبياء".
إن المتتبع للخطاب الافتراضي في موريتانيا يلاحظ أنه امتاز عن غيره بكونه اجتاز مرحلة التفاهة بسهولة من خلال نشر أبرز المدونين لفيديوهات تتناول مواضيع تافهة؛ يبدأ معظمها بمقاطع موسيقية تتناغم مع رتابة تضفي على المواضيع نوعا من الملل الذي تستحي جميع القواميس من تصنيفه ضمن مفهوم التفاهة. لكن هذا لم يمنعها من كسب مشاهدات تجاوزت مئات الآلاف.
فقد تمت إعادة نشرها على نطاق واسع ؛ في عملية تدوير بالمعايير الفوضية لمجتمع يعادي بطبعه كل ماله علاقة بالرقابة.
كانت معظم هذه المقاطع على تفاهتها في مرحلة ما تتجنب الخوض في أعراض شخصيات اعتبارية وزانة في صناعة القرار في موريتانيا. قبل ان يهمين الخطاب القادم من أميريكا الشمالية على المشهد وبأسلوب امتاز ببذاءته التي اعتمدت على التجريح كواحد من أهم عناصر استقطاب المتابعين.
الغريب في الأمر أن ظاهرة التجريح البذيئ لاقت استحسانا وتفاعلا منقطع النظير في أوساط الشباب؛ لدرجة أنها ساهمت في بلورة مفاهيم جديدة حول مايمكن ان يكون عليه النضال الذي صار دالا على البذاءة بالغلبة .
هكذا إذن اختفت المسافات الفاصلة بين التجريح والنقد ..لدرجة أن العقل الافتراضي في موريتانيا لم يعد يقبل سوى بالسباب الذي صار بحكم الواقع جزءا لايتجزأ من أدبيات النضال .
ساهمت عدة عوامل في همينة البذاءة على الخطاب الافتراضي؛ لكن هذه العوامل مجتمعة لايمكن أن تبرر الإساءة لأركان الدولة وجعلها مادة لتسلية مجتمع يجد ذواته في كل الأساليب الممجدة للسيبة .
والحق أن عجز النخبة عن إنتاج خطاب قادر على المنافسة ساهم في ترسيخ نهج البذاءة الافتراضية باعتباره أحد أفضل الخيارات لكل الباحثين عن الشهرة و الامتيازات المادية.
ربما لايدرك الكثير من الشباب المنخرطين في إنتاج وإعادة إنتاج خطاب البذاءة أنه يكلفهم مليارات الأوقية سنويا بدون مردودية ؛ ناهيك عن تأثيراته الأمنية وكذا نتائجه السلبية على تماسك مجتمع يوصف بالهشاشة.
صحيح أن غياب الوازع الوطني والشعور بالهروب من الرقابة؛ شجع كثيرين على المضي قدما في هذا النهج البذيئ. وفي ظل وضع كهذا فإنه يتحتم على الدولة والنخبة البحث عن مقاربات ناجعة بعيدة عن استخدام العنف المقونن الذي تستمد منه البذاءة شرعيتها.