كثيرا ما يمر على مسامعنا قول بعض الأشخاص، قرأتُ الكتاب المعين ولم أستفد شيئا جديدا، ويقول آخرون فلانٌ كثير القراءة ومع ذلك لم تُشكِّل القراءة إضافة جديدة في حياته.. وفلانٌ من الناس، يقرأ كثيرا لكنه لا يستطيع إعطاءَ تصورٍ في القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفضائية حتى،.. ويغيب عن هؤلاء جميعاً أن القراءة ليست على سنن واحد، ولا طريقة مرسومةٍ سلفا يسلكها الجميع لا يحيدون عنها، بل هي قراءات مختلفة، في الأساليب والطرائق والغايات والمقاصد، ومن هنا تختلف الاستفادة من القراءة، ويتنوع القارئون إن صح التعبير..
ومع أن القراءة هي غذاء الروح، والمشكل الرئيس للافكار الإبداعية، وسبيل النهوض لكل المجتمعات، ومن أدمنها وعانى شغفها لا يستطيع الفكاك من أسرها ولو حاول جاهدا.. فإنها أيضا في بعض صورها، تعجز عن العطاء المثمر، وتتنكب الطريق، حين لا تكون لأجل غاية معينة، أو حين لا تتمسك بالأسس الناظمة لأي قراءة قاصدة كما سنذكره لاحقا.
ولا أريد للقارئ أن يحكم على القراءة الفوضوية تعسفا بعدم الجدوائية فكل قراءة مهما كانت طبيعتها لها فائدة أية فائدة.
قبل أن نصف القارئ بالعمق أو السطحية، بالتخصص أو الموسوعية، أونصف بذلك القراءة نفسها لابد أن نحسم أولا ماذا يريدُ القراء من القراءة؟
أهي قراءة لأجل المتعة والهدوء كما يفعل بعض المراهقين مع قراءة الأدب وخاصة الروايات والمجموعات القصصية والخواطر، والمذكرات وأدب الرحلات، لكن هذا اللون من القراءة لا يمكن الحكم عليه سلبا، ولا يمكن كذلك القول إن الأدب لا يقرأ إلا للمتعة، فالأدب مملكة الجمالِ، والحاسة السادسة لأهل الإحساس والشعور المفعم، وهو إلى جانب ذلك تجارب الأمم وحيواتهم وطرائقهم في العيش والحب والطموح والزواج والأكل والجنون.. وبالتالي مهما خُيل إليك من تبسيط في قراءة المتعة، أوتبادر إلى ذهنك؛ فلا تستهون هذا اللون من القراءة فهو ذو نفع عميم وفائدة جمةٍ، فالأدب بطبيعته خفيف موافق للنفوس، وبالتالي هو متعة لكنها متعة مخلوطة بفوائد جمة وثمارٍ كثيرة.
في سياق آخر هل الباعث على القراءة إنجاز البحوث، والتحضير للدروس والمحاضرات؟ فتصبح القراءة بذلك عملية اضطرارية، إجبارية لابد منها وبالتالي تكون واقعة تحت سلطة الإكراه والإجبار، وهل يفقد ذلك القراءةَ قيمتها؟ هذا اللون من القراءة له فوائد جمة، منها إنجاز الهدف المبتغى؛ محاضرة أو رسالة أو مقالا، ومنها أيضا تجميع المعلومات التي تتركها في الذهن رغما عنا، إضافة إلى الاحاطة بالمراجع المصادر، والاطلاع على إنجازات الآخرين، وأحيانا تبعث على تلخيص بعض الكتب التي كانت تحتاج إلى التلخيص، وربَّ بحث قاد إلى بحث آخر اكتشفه الباحث خلال التنقيب والتفتيش، فأي فائدة أعظم من هذا؟
وربما لا يكون للباعثين المتقدمين دورٌ في دفع القارئ وتشكيل رغبته، بل يكون الحافز الرئيس هو تغطية الفراغات التي يخلفها الجهل، وزيادة الوعي والإحاطة بالمعارف حبا ورغبة ذاتية، وهنا نكون أمام لون آخر من القراءة أكثر فائدة وأقدر على الاستمرار، هو لونٌ مدفوع بالرغبة والحب، ومحمي بحب النتيجة والغاية، وهذا ما يحميه من الملل ويعطيه دافعا قويا للبقاء، ومع الوقت يتحول إلى عادة شخصية لا يستغني عنها الإنسان..
لكن القراءة لابد أن تكون قاصدة تتغيا هدفاً معلوما، وغاية تنتهي إليها، وهذا يتطلب التأمل في كثير من الأحيان، واختيار الجو الملائم والوقت المناسب، ومن القراءة ما يفرض طقسا خاصا فلابد فيها من تحضير القلم والورقة، وقراءة الصفحة الواحدة وأحايانا الفقرة أكثر من مرة حتى يتم فهمها واستيعابها، وقد تفرض عليك المعلومة البحث عن أصل لها لم يذكره المؤلف، أو معلومة ضرورية لابد من الإطلاع عليها لتشكيل فكرة ما.
كثيرٌ مما ذكرنا سابقا لا يوفق له بعضُ القراء، وبعضهم يعجل عنه، أو يهمله، وهو ما يجعل الفائدة من القراءة محدودة جدا، وفي هذا جوابٌ على السؤال الذي ذكرناه في طالعة هذا المقال.
ختاما لا يميت القراءة التخصص ولا تنوع أغراض القراء، إنما يسلبها فائدتها القراءة المرائية، والقراءة الفوضوية، والقراءة الكاذبة التي يقول صاحبها قرأت وقرأت وهو لم يقرأ، ولو قرأ لكان خيرا له وأهدى سبيلا.