بعد مضي ما يقرب من شهر على بداية حرب فرنسا وحلفائها من دول الايكواس.. وغيرها في منطقة أزواد يتكشف يوما بعد يوم أن الغاية التي ترمي إليها هذه الحرب ليست كما يدعي الأحلاف من محاربة الإرهاب والتطرف ورد شمال مالي إلى سيادة الحكومة المركزية في باماكو، وبسط الأمن والأمان والعيش الرغيد في منطقة أزواد المحرومة
من أبسط وسائل العيش الكريم من سنة 1960 إلى يوم الناس هذا ، بل إن الهدف والغاية الحقيقية لهذه الحرب هو هدف استعماري بامتياز ، الشيء الذي يبين صدق المقولة التي قالها المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى إفريقيا ميخائيل مارغيليوف الذي قال إن منطقة مالي الغنية بالذهب والمعادن النفيسة والنفط والغاز تمثل منطقة تقاطع مصالح جيوسياسية واقتصادية لدول العالم الكبرى في إفريقيا .
إن من يشاهد هذه الأيام ما يقوم به الجيش المالي وأعوانه بمباركة من القوات الفرنسية من قتل وتشريد للأبرياء وترويع للآمنين وانتهاك للأعراض ونهب وسلب للأموال وإهلاك للحرث والنسل وممارسة للتمييز العنصري الصراح والتشفي النابع من صدور وغرة يتوقد بها أوار الأحقاد الدفينة والكراهية المقيتة ضد سكان إقليم أزواد من العرب والطوارق ومن العنصر الأبيض بشكل عام، إن من يشاهد ذلك يتضح له بجلاء أن فرنسا لا يهمها كل هذا بقدر ما يهمها الاستحواذ على مقدرات إقليم أزواد من المعادن النفيسة التي تقبع تحت حبات الرمال في هذه المنطقة ، مستخدمة في سبيل ذلك مواليها الطرائف والتلائد ، ولسان حالها يقول :
إذا كان حطكها لأجل مصلحة أشر على أهلها ولا تقل كلمه
ليذهب الجميع إلى الجحيم في سبيل تحقيق مطامعنا وتنفيذ خططنا لعل ذلك يكون متنفسا لتخفيف وطئة الأزمة الاقتصادية التي نترنح فيها خلال هذه السنين العجاف .
إننا ندين التطرف والإرهاب أيا كان مصدره ونوعه، كما ندين تصرفات بعض الجماعات المحسوبة على الإسلام التي أساءت فهم النصوص الشرعية حتى خرج بها ذلك الفهم عن دائرة وزن الأشياء بموازينها الصحيحة ، وأوقعها في التزبب قبل التحصرم ، ولكن فرقا كبيرا وبونا شاسعا بين تصرفات أولئك ،وقضية الشعب الأزوادي العادلة ، وحقه في العيش الكريم ، وحقه في تقرير مصيره وبناء وطنه بعد مضي أكثر من نصف قرن من الحرمان والتهميش والتجهيل من لدن الحكومات المالية المتعاقبة .
إن من ينظر اليوم إلى منطقة أزواد الغنية بالموارد الطبيعية والخيرات المتنوعة التي حباها الله سبحانه وتعالى بها يكاد أن يجزم بأن هذا المنكب البرزخي من البسيطة سائب لا يتبع لنظام أي دولة من دول العالم ، فلا شوارع ، ولا مرافق حيوية ، ولا مؤسسات تعمل على إحياء المنطقة وتطويرها وفك العزلة العالمية عنها ، الشيء الذي جعلها مرعى ممرعا لانتجاع تجار المخدرات وقطاع الطرق وعصابات التهريب التي تجوبها جهارا نهارا لا تخاف من رقيب أو محاسب ، وكل ذلك تحت سمع وبصر الموجود من مؤسسات الدولة المالية التي يسهل بعض المسؤولين فيها لهذه العصابات نشاطاتها الإرهابية مقابل ما تدفعه من رشى وإتاوات تشتري بها ضمائر ووطنية أولئك المسؤولين .
إن الشعب الأزوادي من الطوارق وإخوانهم العرب المواطنين والمستوطنين يتعرضون لجرائم عنصرية من لدن جيش باماكو وشيعته لا يمكن السكوت عليها، فعلى الجميع من مجتمع دولي ومن منظمات حقوقية .. تحمل مسؤولياتهم تجاه ما يحدث من إبادة عرقية في إقليم أزواد. إن هؤلاء المساكين لم يطالبوا بما لا يستطاع، فكل ما ينالونه الآن، وما نالوه من قبل من الحكومات المالية المتعاقبة كان آخرها الرئيس المطاح به الذي قاد حربا غير مباشرة على الأزواديين في السنوات الماضية عبر حركات (كوندا كوي) التي قامت بمذابح جماعية وتجاوزات بشعة ضد سكان الإقليم عربا وطوارق راح ضحيتها الكثير من المدنيين العزل على مرأى ومسمع من حكومة مالي المركزية، كل ذلك في سبيل المطالبة بحق وقضية يرى المنصف عدالتها، فلطالما طالب أهل أزواد باستقلال ذاتي ضمن إطار الدولة المالية يمكنهم من بناء إقليمهم وعمارته واستغلال خيراته بما يعود على ساكنته بالنهوض إلى مستوى شعوب الكرة الأرضية، ولكنهم لم يجدوا من يصغي لهم، بل على العكس من ذلك قوبلوا بالاستهزاء والسخرية والقمع الوحشي الذي يهدر حقوق الإنسان وكرامته. وبعد ما تثور ثائرة الشعب الأزوادي في سبيل مطالبه وحقوقه تقوم حكومة مالي المركزية بوضع بعض الضمادات المهدئة تحتوي حلولا مؤقتة لا ترتقي إلى مستوى تطلعات الأزواديين فضلا عن تلبية مطالبهم ، تنتهي صلاحية تلك الحلول بصنوف من المكر والخداع والمراوغة حتى ترجع حليمة إلى عادتها القديمة .
ولا يسعني في هذا المضمار إلا أن أنوه ببعض المواقف الطيبة التي سجلها التاريخ بماء الذهب على صفحاته إبان هذه الحرب ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أربعة مواقف :
أولها : الموقف الرسمي الموريتاني الذي شكك المشككون وأغرض المغرضون في الحلة التي سيخرج بها ، ففاجأ الرئيس محمد ولد عبد العزيز الجميع بخطابه يوم الأربعاء 24/1/2013 م في مدينة تيشيت الذي بين فيه أن موريتانيا بحكم جيرتها مع الدولة المالية يتحتم عليها حماية مصالحها المشتركة معها، وعلى رأس تلك المصالح ضمان الأمن والأمان على حدودها، مع ترحيبها في نفس الوقت بأفواج اللاجئين الفارين من لهيب نيران الحرب الذين يتدفقون على المناطق الشرقية من موريتانيا، وأن ذلك واجب ديني وأخلاقي تمليه الأخوة الإسلامية والشيم العربية الأصيلة للشعب الموريتاني والمواثيق والعهود الدولية، لكن كل ذلك لا يعني أن تزج موريتانيا بجنودها وقواتها في غمار حرب مصالح تخوضها فرنسا لحاجة في نفس الساسة الفرنسيين، مستخدمة في ذلك تلامذتها الأفارقة الذين لبوا نداءها ولسان حالهم يقول:
ولم ينسه طول الزمان شيوخه وبالطول قد ينسى الفتى شيخ علمه
ومما لا يختلف فيه اثنان أن موريتانيا بحكم الظرفين الجغرافي والتاريخي والمصالح المشتركة ... كل ذلك يجعلها ليست كغيرها من الدول الإفريقية المجاورة لمالي، فهي معنية بالدرجة الأولى بما يحصل في هذا البلد الشقيق وتتأثر به تأثرا بليغا، إيجابا وسلبا، خاصة المناطق الشرقية من موريتانيا، ولا ينبئك مثل خبير .
وذكر السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطاب تيشيت أن موريتانيا هي أول من دق ناقوس خطر الجماعات المسلحة والانفلات الأمني في شمال مالي، وكأن لسان حالها يقول :
أرى بين الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
الموقف الثاني والثالث : الموقف الرسمي القطري الذي عبر عن حصول تسرع في الحل العسكري قبل أوانه، وجاء هذا الموقف مطابقا لموقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حيث عبر الاتحاد عن استعداده كوسيط للحوار بين الأطراف المتنازعة، مشيرا هو الآخر إلى أن فرنسا استعجلت في إشعال نار الحرب قبل استنفاذ جميع الوسائل المطلوبة للحل السلمي والمصالحة الوطنية، معتبرا أن الحلول السلمية ممكنة إذا جرى استبعاد الأجندات الأجنبية، وحكّم منطق الحوار والمصالحة.
الموقف الرابع: الموقف المصري الذي عبر عنه الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي في كلمته خلال افتتاح القمة الاقتصادية العربية بالرياض، التي قال فيها إن مصر لا توافق أبدا على التدخل العسكري في شمال مالي لأن ذلك من شأنه تأجيج الصراعات والحروب في المنطقة، داعيا في الوقت ذاته لأن يكون التدخل سلميا وتنمويا .
إنني قبل أن أثني عنان القلم – وخير الكلام ما قل ودل – لأهيب بجميع العلماء والدعاة والمصلحين.. وكل من لهم وازع ديني وخلقي – وما أكثرهم – في الجنوب المالي أن يقفوا صفا واحدا مع إخوانهم في الشمال وأن يواسوهم بالمال والنفس وأن يحاولوا الأخذ على أيدي القتلة الذين يستبيحون دماء وأعراض إخوانهم الأزواديين، فالجميع مسلمون، والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه. وصح عنه في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وليتذكروا أن الإسلام لم يفرق بين عربي وأعجمي ولا بين أبيض وأسود؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره أنه قال في خطبته وسط أيام التشريق: يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. ومن المعروف عند الجميع أن الشعب المالي له جهود طيبة مشهودة في القارة السمراء في بناء المساجد وإقامة شعائر الإسلام والدعوة إليها .. والوجود الأجنبي واستقراره في مالي ليس من صالح الجميع، فالعاقل من اتعظ بغيره. كما أهيب بالعلماء والدعاة والمصلحين وعقلاء الساسة ... في منطقة أزواد العريقة – أزواد القاضي سنبيرو الأرواني والشيخ سيدي المختار الكنتي وسيدي يحيى الكبير القلقمي، أزواد أحمد باب التنبكتي ووالده أبي العباس أحمد المسك تلميذ الإمام الحطاب المالكي، الذي ترجع إليه أغلب أسانيد مختصر خليل في بلاد شنقيط – أهيب بهؤلاء جميعا أن يتقوا الله في شعبهم ومنطقتهم، وأن ينظروا إلى العواقب والمآلات بنظرة مقاصدية تستنقذ الواقع وتستلهم الدروس والعبر من الماضي، وأن لا يدعوا المجال للجماعات المنحرفة عن الجادة، والمتطرفة في الفكر والتصرف لأخذ زمام الأمور في بلدهم، حتى لا يعكر ذلك صفو قضيتهم العادلة، وحقهم المشروع في بناء وطنهم واستغلال ثرواته ومقدراته، بما يعود على الأزواديين بالرّقيِِِّ والازدهار.
سيدي يحيى ولد محمد ولد عبد الوهاب [email protected]