الذاكرة السياسية الموريتانية مليئة بالمفارقات والمواقف "التاريخية" سواء تعلق الأمر بالمعارضة أو بالنظام ، فالخطاب السياسي لدي الطرفين إديوجي بإمتياز أي أنه (يخفي أكثر من ما يظهر ) وهو أيضا مكيافيلي حتي النخاع (أي أن الغاية فيه تبرر الوسلة )
ولكن كيف يفهم المواطن العادي هذه التناقضات السياسية ؟
ولماذا لا تجد نخبتنا السياسية طريقا جديدا للممارسة السياسية الشفافة؟
وأم أن الطبيعة العسكرية للنظام هي التي تفرض هذه التكتيكات؟
لاشك أن المتتبع للمعارك السياسية الطاحنة يندهش كثيرا حين يسمع سقفا مرتفعا للمطالب السياسية وفجأة تتبخر تلك المطالب وتظهر مطالب جديدة - دون مقدمات حتي- ولكنها بعيدة عن الأولي .
كم كان رئيس البرلمان الحالي وفيا لمطالبه بإسقاط إنقلاب ولد عبد العزيز علي شرعية نظام سيد ولد الشيخ عبد الله وقد سمعناه جميعا يطلق عبارته القوية و الشهيرة( لن تكون رئيسا لموريتانيا لا ولد عبد العزيز) سمعنا بذات الآذان ولكن هذه المرة ليس من ملعب العاصمة انواكشوط حيث جبهة المعارضة آنذاك تنظم مهرجانا حاشدا ولكن من عاصمة ولاية اترارزة وعبر أثير تلفزيون الجمهورية الإسلامية الموريتانية ولد عبد العزيزيصدع - وهو لايزال في عنفوان قوته – بالقول ( لن أطلق سراح الوزير الأول في حكومة ولد الشيخ عبد الله حتي يأكل من الأرز الفاسد الذي وزعه علي المواطنين).
وإذا أستعرضنا تصريحات جميع النواب المغادرين لأحزاب المعارضة والملتحقين علي دفعات بحزب الأغلبية لسجلنا صفحات طويلة من التناقض اللفظي والتباين المفرط في الخطاب السياسي لهؤلاء من الهجوم إلي الدفاع .
وإذا عدنا إلي النظام نفسه فسنجد أنه يختزل الخطاب السياسي للموالاة في بعد واحد هو: تبرير ما يقوله وما يفعله الرئيس بعد أن يقوله أو يفعله.
أما المعارضة الحالية أو المنسقية علي تنوع تشكيلاتها وعدم انسجام تصريحات قادتها أحيانا فإنها لم تشذ عن القاعدة كثيرا بل كرستها حين دعت جهارا نهارا إلي رحيل محمد ولد عبد العزيز وأقسمت علي ذلك وحددت له الآجال تلو الآجال ........
وجاءت اللحظة "التاريخية" :التي يعلن فيها أحد أحزاب منسقية المعارضة الديمقراطية البارزين (حزب إتحاد قوي التقدم ) وعلي لسان رئيسه أن الحزب سيشارك في الإنتخابات القادمة إذا توفرت لذلك شروط تتساوي أو تنقص قليلا عن ذات الشروط التي قدمتها مبادرة الزعيم مسعود ولد بلخير وتلقتها المنسقية بفتور ولامبلاة .
المعارضة إذا تستعيد ذكريات الماضي القريب والبعيد وتسلك الطريق الإديولوجي القديم الذي يقول خطابه السياسي المعلن كل شيء إلا الحقيقة ويوهم الناس بأشياء كثيرة ليس من بينها الطريق الذي سيسلكه في الأخير
وتلعب المعارضة في صيغة الشروط التي أعلنها ولد مولود لعبة المكيافيلية المعهودة والتي تبحث عن المكاسب الكبيرة وعينها علي تلك الصيغرة والصغيرة جدا من قبيل التمثيل في البرلمان القادم والمحافظة علي دعم الدولة إلي آخر المحفزات الإنتخابية التي يهدد النظام بالحرمان منها .
ما أشبه الليلة بالبارحة
قد يحزن أنصار مبادرة مسعود والمبادرات الأخري لأن حزبا في المنسقية سحب البساط من الجميع وتوجه مباشرة ودون سابق إنذار إلي الحوار من تحت الطاولة وعبر ممثلين دائمين في الجسم التقليدي للنظام السياسي الموريتاني - وهو شيء معروف منذ العصر الذهبي للكادحين -.
وقد تفرح بعض أحزاب المنسقية لأن ولد مولود وفر عليها تفكيرا عميقا كان يؤرقها ونضالا سياسيا مكلفا لم تجد له نتيجة علي الأرض وذلك شيء لا تقبله القاعدة المكيافيلية ولاتفهمه الممارسة السياسية لبعض النخب في المعارضة والنظام.
يبقي موقف صاحب المبادرة الأقوي في الساحة والتي أريد لها أن تسقط - في لحظة غدر سياسي – لا بد أنه سيؤكد قوة موقفه ويدعم هذه المرة تصلب النظام وتعنته وربما يشترط علي المنسقية لكي تشرك في الإنتخابات القادمة القبول المعلن بنتائح الحوار الذي قاطعته في وقت سابق .
أما ولد عبد العزيز فلا أعتقد أنه سيسر كثيرا بلغة المنسقية المهادنة أو أنه سيعول علي تفاهمات جديدة معها لآن الجيش يكره الوفاق السياسي ويمتعض من رؤية السياسيين موالاة ومعارضة في خندق واحد،لأن استيراتيجيته قائمة علي تشتيت الطبقة الساياسية وخلق الصراع بينها والإستعانة ببعضها علي البعض الآخر.
ويمكننا أن نقرأ الإستيراتيجيات الثابتة للمعارضة والنظام علي ضوء ما يمارسه القادة العسكريون علي مدي العقود الماضية من تمزيق ممنهج للعمل السياسي وتدجين للطبقة السياسية وتوظيف واضح للموارد والإمكانات في تلك اللعبة من خلال شراء الذمم والضغط علي المصالح الذاتية للأفراد والمجموعات.
وهكذا نفهم تكتيكات المعارضة منذ أن وقفت في وجة الأنظمة العسكرية المتعاقبة ، فهي تزال تدرك أن الإقصاء والتهميس هو العدو الحقيقي لها وأن ماسواه من المناكفات والمنازعات هو مجرد وسائل ضغط تستخدمها كل الاطياف المعارضة لإنتزاع المشاركة لا أكثر.
يصبح من الجدير بالنخبة السياسية موالاة ومعارضة أن تتجاوز عتبة هذه الدائرة السياسية الضيقة وتتحد علي هدف مشترك وهو( إسقاط النظام العسكري بشخوصه وممارساته) لأن ذلك وحده هو ما سيحقق الإنتقال النوعي في الممارسة السياسية وفق قواعد الديمقراطية والشفافية والوعي السياسي الحقيقي.
الأستاذ: الحاج ولد المصطفي