لا تبدو البلاد على قدر مرجعياتها السياسية السائدة المرتبكة، الجامدة الطرح و المتحجرة الفكر من ناحية و لا الشعب الذي ما تزال كل الدلائل العملية في الواقع التعاملي المعيش تشير أنه يظل متمسكا أو على الأقل متبنيا بعض جوانب و اعتبارات عقلية موغلة في الأخذ بـ"معتقد التمايز و الانقسامات" المضمخة في العمق الوجداني ـ المتحلل منذ أمد من الضوابط المرجعية ـ بعقلية و مفاهيم الجاهلية و كأن الإسلام الذي نشره، ها هنا على أرض التلاقح و الثراء، رجال عظام و تلقفه أهل رشداء طيبون، لم يحمل النفوس عمق الحقيقة المطلقة المتجلية في أبعادها الثلاثة و أولها:
ـ أن الناس خلقوا من ذكر و أنثى،
ـ و ثانيها أن التعارف هو من غايات الوجود السامية ،
ـ و ثالثها أن الأفضلية عند الله في هذا الخلق المتفرد منوطة بتقوى الله الأعلى و أنه لا سبيل إلى التقوى بقلب غير سليم من الكبر و الغل و الحسد و البغضاء و الشحناء و ما يترتب عن ذلك من آفات بقية أمراض القلوب.
حقائق بقيت منذ ذلك أثرا بعد عين منذ أن سقط عنها المنطق و انشغل عنها الجميع في خضم حيز و مهاوي العصبية الضيقة و الصراعات الجوفاء على اللون و الطبقة و اللسان، و هم نتيجة لذلك و بفعل القصور الناتج لا يبدون قادرين على الاقتناص ثم الاستفادة من أية لحظة من لحظات الإلهام العابرة أو الحظ الخارق النادرة المحملة بنسائم الأمل و تباشير حصول تغيير إيجابي في المسار المتعثر لأمة مثخنة بالجراح و محاطة بالمخاطر.
بشهادة الوزير الأول الدكتور مولاي ولد محمد لقظف عند افتتاح أعمال الجلسات الوطنية للمنتديات العامة للتربية و التكوين المنعقدة في رحاب المركز الدولي للمؤتمرات المعروف اصطلاحا بقصر المؤتمرات بنواكشوط و تأكيدا عن رئيس الجمهورية فإن المنظومة التعليمية الوطنية ظلت قاصرة منذ الاستقلال عن تأدية مهامها في ظل غياب نظام تربوي ملائم و جيد يلبي للبلاد احتياجاتها التنموية المتوازنة و يخلق أخياليا واعية لمتطلبات عصرها و مسلحة بالمعارف و المهارات المستجيبة للمعايير العلمية و الاقتصادية والملبية بالتالي لمتطلبات سوق العمل و الضامنة للعدالة الاجتماعية و لاستشراء و تطبيق مفاهيم الديمقراطية بكل أبعادها في انسجام لا تتعارض فيه الاسلام.
أو لا يكون موضوعيا حقا أن تحمل شهادة الوزير الأول ـ و التي حملتها شجاعة و جرأة و صراحة نادرة ـ على المدح قبل القدح باعتبار أنها ظلت مطلوبة بإلحاح منذ أمد فقد وقعت بالتالي كما يقع الحافر فوق الحافر على الاستنتاج العام للشعب بكل أطيافه و على استخلاصات كل قادة المشهد السياسي و ناشطي و فاعلي المجتمع المدني، و إنها إبداء لإرادة جادة في القيام بإصلاح لم يعد يختلف اثنان على صبغة الإلحاح بشأنه.
فكيف يمكن من هنا التبرير لأية جهة كانت حزبية أو نقابية أو غيرهما من المجتمع المدني مقاطعة هذه الجلسات الوطنية للمنتديات العامة و أن يحرم الوطن من إسهامها في التشخيص الملح و تقديم الحلول الناجعة في قضية مصيرية لا يختلف اثنان على أنها فوق كل الاعتبارات السياسية الضيقة، و علما كذلك أن أعمال هذه الجلسات إنما تلخصت في موضوعي التربية و التكوين الملحين. و قد أنيطت بكل الكفاءات و الخبرات من أبناء الوطن وسط بحضور و بمشاركة ممثلين عن المجتمع المدني و النقابات و الأحزاب السياسية و المؤسسات التعليمية و البحثية و المهنية و كل الطاقات الحية الأخرى مهمة إعداد دراسات مستوفية الجوانب تبرز كل النواقص و الاختلالات و أيضا إطلاق النقاشات المفتوحة على كل المسائل دون قيود و لا محظورات كقضية اللغة العربية و مكانتها في المنظومة التربوية و المناهج التعليمية و اللغات الوطنية الأخرى و الأجنبية و منها تحديدا الفرنسية المنوط بها حمل المنهاج العلمي بغير مرضاة الجميع.
لكن و مما لا شك فيه و على الرغم من كل النواقص و ضعف المعالجات التي تغلبت في مجملها العاطفة على العقل فإن المباشرة بتطبيق التوصيات التي خرج بها المنظمون و المشاركون و التي حملت مجل الهم التربوي التي تنوء به كل الأعناق و يندى له كل جبين و يؤرق في وضعه الذي كشفت كل أوراقه الرديئة وسط بحر من دموع أسى كل أطياف المجتمع، أمر لا يقبل التأجيل، عسى يكون في ذلك زوال بعض من الغم و يبعث في الأفق القريب تباشير الأمل و رفعة الأمة... و عسى لا يؤكل حتى التمر بماء البحر.