من بُحجرة إلى حي الطلحاية؛ مرورا بحلة جود وباقي الأحياء التي تحمل مسميات عشائرية في غالبيتها؛ يتعايش سكان الركيز بسلام منذ عشرات السنين؛ لاشيء يكدر صفو ذلك التعايش السملي ؛ سوى بعض النكات المتهكمة على الواجهة السياسية العصية على عوامل التعرية بطبعها.
رغم قساوة الظروف استطاع ساكنو الركيز التكيف بوسائلهم الخاصة مع تحديات بالغة الصعوبة؛ فبعد صلاة العصر من كل يوم تبدأ حركة دؤوبة على العربات التي تجرها الخيول وعلى سيارات مرسيديس من نوع من 190 للبحث عن مادة العيش الذي شكل التيرمو ميتر المتحكم في تعديل أمزجة السكان؛ في منطقة تمتاز بتعامد أشعة الشمس عليها في معظم فصول السنة وارتفاع في معدلات درجات الحرارة؛ ومع ذلك لاتخطئ العين تلك الابتسامات البشوشة في وسط خريطة من البؤس التي تعكسها ملامح الوجوه قبل الهيئة العامة للأشخاص.
المتتبع لأحاديث المجالس في اركيز يدرك دون عناء ذلك الشعور بالغبن الذي أصبح هو الآخر يمرر عبر جلسات ذات طابع فكاهي؛ فغالبا ما ترتفع أصوات أصحابه في نقاشات يومية أمام المحلات التجارية وقابلة الساحة الوحيدة حيث يوجد مبنى المقاطعة؛ لتنتهي بضحكات وعناق حار ؛ وتحديد موعدجديد لسجال تطبعه تلك الصبغة المرحة؛السائدة في الجنوب الغربي لموريتانيا وكأن الحديث في السياسة بأسلوب ساخن -في ظاهره- صار بحكم الواقع جزءا من أحاديث الشارع في مدينة اركيز.
يدرك المهتمون بالتاريخ أن مدينة الركيز شهدت ميلاد أول حركة للمطالبة بحقوق الحراطين على يد المرحوم محمد الأمين ولد أحمد وبعض زملائه في ثمانينيات القرن الماضي؛ قبل ان تُختطف تلك الفكرة من قبل مسعود ولد بلخير في سياق معين له أهدافه التي يضيق المقام هنا عن الخوض في تفاصيلها.
لقد ساهم غياب إستراتيجة واضحة لاستغلال موارد الركيز من قبل الدولة الموريتانية في ارتفاع ملحوظ في نسب الفقر والتسرب المدرسي... ؛ لكن ذلك لم يدفع الأمور للخروج عن السيطرة ؛ فمادام المزارع يستطيع توفير "نفكة" من الزرع فذلك مؤشر مهم على قدرته على التكيف مع مختلف الظروف مهما كانت صعوبتها.
ثمة متغيرات كثيرة أدت بحسب كثيرين إلى تزايد الاحتقان في منطقة عرفت ببشاشة أهلها وبساطتهم وجنوحهم الفطري للسلم؛ لعل أهمها:
- دخول رأس المال بقوة في زراعة بدائية وتخصيص أكثر من 95% من الأراضي المستصلحة لزارعة الأرز والخضروات على حساب المحاصيل التي اعتاد السكان الأصليون على زراعتها مثل " بشنه وازرع ومكه والشركاش".
- قبل سنة من الآن أصبحت مقاطعة الركيز وجهة سياحية؛ الأمر الذي أدى لارتفاع جنوني في الأسعار؛ وانتشار ظاهرة الاحتكار من قبل التجار الذين يفضلون البيع للوافدين بأثمان مغرية.
والحق ان هذه الديناميكية التي عرفتها المدينة لم تواكبها إجراءات امنية تحسبا لما قد تحدثه من تأثير في سلوك وعقليات ساكنة الركيز .
- تهميش اليد العاملة المحلية واستبدالها بأجانب من دول مجاورة.
- رداءة الخدمات التي تقدمها شركات الماء والكهرباء والاتصال وابتزازهم المزعج لسكان عاجزين عن توفير لقمة العيش.
كلها عوامل اجتمعت لتؤدي في النهاية لاحتقان افتراضي تحول فجأة لعنف واقعي خرب كل رموز الدولة في المقاطعة.
وبغض النظر عن الأسباب؛ فإن تغيير نمط الغذاء كان له تأثيره على طبائع القوم ؛ فالعيش لم يعد هو جل معيشة أهل المقاطعة كماكان؛ لذلك من الطبيعي ان ينعكس ذلك على سلمية وطبائع أهل الركيز بشكل عام؛ وليس العنف التخريبي الذي شهدته اركيز مؤخرا سوى مؤشر مزعج على أن تغييب وجبة العيش ؛بحكم ظروف قاهرة؛ من مائدة الركزيين؛ سيكون له نتائجه السلبية على نظرة المواطن العادي للكثير من المستجدات الصادمة في تفاصيلها؛ خصوصا وأن الأحداث الأخيرة تأتي بعد أسابيع قليلة من تقسيم الركيز إلى مقاطعتين.
بيد أن بعض المراقبين يرى أن هذه الأحداث ليست سوى مخاض عسير لمرحلة جديدة قدتكون لها انعكاساتها على المشهد السياسي بشكل خاص ؛ لكن المتفق عليه هو أنها أحدثت شروخا سيكون لها ما بعدها؛ على اعتبار أن المزارعين يدركون أكثر من غيرهم "أن الدقيق إذا انكب مايرجع بصفته الأولى ".