قرأت باهتمام كثيرا من أفكار ساسة ومثقفين ومفكرين كبار، ومثقفين عمالقة، أوصلهم فهم الخارق للأمور إلى قياس الوحدة العربية بكل قدسيتها وحيويتها وحقيقتها، على تجمعات إقليمية واقتصادية وتكتلاتية عبر العالم، ربما في أحسن الأحوال جمع شعوبها طابع جغرافي أو مادي متغير، فكانت بالمنطق مجرد ظواهر آنية..
الغريب في الأمر، رغم قصر النظر في ما سأكتبه أو أحاول التعبير عن فهمي له، أن هؤلاء المفكرين أو المثقفين يعيشون في أيام بلغت فيها الانهزامية النخبوية درجة قصوى، ضربت صلابة ورصانة أي فكر تقدمي ومتنور، لحد أن صار المثقف يكتب بنفسية الشريحة واللون والجهة والعرق في وطن واحد، وفي أمة واحدة، ولا يستطيع هذا المثقف الذي يحلق قاصيا إلى وِحْدات خيالية أممية من منظور اقتصادي أو ديني، متناسيا الخصوصية الثقافية والحضارية والهوية كأساس قومي، انه ترف فكري لا غير،
أقول، ألا يستطيع هؤلاء المفكرين الكبار، الكتابة في الواقع القاسي والتحدي الكبير الذي تواجهه الأمة العربية.. للكتابة عن حقيقة وحتمية الوحدة العربية شعبيا، فالأولى على النخب المنهزمة والتي يجنح بها الخيال المهاجر إلى نماذج الغرب أو الشرق، أن ترى بأم عينها حقيقة وحدة الشعب العربي بكل ألوانه وفسيفسائه وما يربطه من وشائج عصية على دعاة التفرقة والتفتيت،
اكتبوا عن أواصر التاريخ والثقافة والجغرافيا والدين، اكتبوا عن مدى التطابق الماثل بين كافة أوعية ثقافة شعبنا بكل تنوعها وثرائها وألوانها المكونة لحضارة أمة تعايشت وستظل وتتمدد وتنموا ...
اكتبوا عن قدسية الوحدة العربية وحتميتها، ليس لأنها تلبي حاجة اقتصادية فحسب، بل لأنها ضرورة لكل مكونات الشعب العربي في كل الأقطار العربية، وبكل ألوان وأعراق هذا الشعب العربي وغالبيته المسلمة،
إن المصير مشترك واللغة والهوية والديانات عوامل حتمية وقدسية وواقعية للوحدة العربية، هي عوامل قائمة بذاتها وضرورة، وليست عوامل تنتج حسب حاجات مادية او ديمغرافية أو متغيرات ما،
الهوية العربية الجامعة، حقيقة ثابتة، ونشر وعيها وتجلية حقائقها وأدلتها الحية، من لغة وأواصر وثوابت وثقافات، لدى جميع مكونات الشعب العربي في كل أقطار الوطن العربي، هو الانجاز والفعل الذي سيسجله التاريخ للكتاب والمفكرين والمثقفين، وهو المواجهة المطلوبة والملحة لمشاريع تمزيق نسيج الشعب العربي في كل أقطاره عبر نشر الخطابات الشرائحية والعرقية واللونية، وتفكيك وحدة وامن الدول العربية عبر تلك النعرات والعنصريات والطائفيات والمحاصصات..!
الوحدة الوطنية ألح للترسيخ، والقومية أجدر بالتفكير والتمحيص، فهي حقيقة لا تتطلب إلا نشر الوعي بها،
أما وِحْدات الاقتصاد و"الميتافيزيقا"؛ فهي تعادي وحدتنا العربية، لأنها تختلق مبررات لتواصلات إقليمية تنفي وعاء ثقافتنا وأصالتنا ..
ومع ذلك فكثير من الدول المحيطة بالوطن العربي، في واقع الحال تربطها وشائج كثيرة مع العرب، دينيا وتاريخيا وثقافيا عبر التاريخ، ومن السهل التواصل معها، وحين يحافظ العرب بالأساس على كيانهم الذاتي، فتحقيق الوحدة العربية وحده سيكون فتحا مبينا للإنسانية جمعاء، لأنهم ليسوا حضارة ظلم ولا غطرسة ولا استعمار، رسالتهم هي خلاص العالم.
الأهم في الظرف الحالي، أن الأمة العربية، في كل أقطارها، تواجه تفكيكا خطيرا للحمة الاجتماعية وتقطيعا لأواصر الشعب، وهي مهمة النخبة أن تواجه هذا الخطر أولا، ومهمة النضال أن يقف بقوة وتضحية لصهر مكونات الأمة والحفاظ بأغلى ثمن على تماسكها..
فبدون ذلك لن تكون الدولة الواحدة بمنأى عن التقسيم، أحرى عن الأمة بأكلمها التي تهدد وحدتها الحقيقية والحتميةـ مصالح الرجعية والانتهازية والاستعمار والاستحمار وكل قوى الشر والطغيان والبغي حول العالم..
لذلك فإن الهروب من قدسية الوحدة العربية وحتميتها التاريخية، إلى إفريقيا أو أسيا، قياس لا يراعي الفوارق ولا طبيعة الأشياء..