صناعة الأعداء / محمد ولد الراجل

إذا كان المثل السائر يقول إن العاقل لا يعادي فإن التجربة السياسية تعلمنا أن السياسي الناجح يمضي كل وقته من أجل إغراء الآخر بمشروعه الفكري، في عمل متواز مع سد كل الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها الوهن للمناصرين ويضعف انتماءهم.. فالرصيد الأساسي الذي يمثل الهدف والغاية بالنسبة للسياسي هو الجمهور...

لكن هذه القاعدة انخرمت في وضعيتنا السياسية القائمة، فبتنا نعيش أوضاعا سياسية منفصمة عن القياس، وتصرفات خارج السياق الذي يمكن أن تفهم به توجهات الحاكمين في موريتانيا..

 

عسكرية تفسد الأصدقاء

ومنذو وصول الجنرال محمد ولد عبد العزيز بدأت الطبيعة العسكرية تتجلى في أكثر من منحى، وبات التصرف الطفولي الانفعالي هو الشائع في التعامل مع كل الفرقاء؛ يتساوي في ذلك المعارض منهم والموالي...

بل إن أوساطا سياسية مطلعة نقلت أكثر من مرة تذمرا متزايدا في صفوف الأغلبية، وصل به الحد أن دخل مجلس الوزراء في التوبيخات المتكررة، وقطع خدمة الاتصال، والتعامل الفوقي من الرئيس للوزراء، وإصداره الأوامر ذات الطابع العسكري في تعليماته الأسبوعية بمجلس الوزراء.

وخلال الفترة التالية لانقلاب الجنرال عزيز أكدت أوساط معارضة أن الموالاة تبحث عن أخبار الجنرال عزيز لدى معارضيه، وأن ما يعطي لمناوئيه من الأخبار أكثر بكثير مما يعطي لداعميه، مما يكشف استهزائه بهم.

 

هذه الطبيعة العسكرية للجنرال محمد ولد عبد العزيز ولد تذمرا لدى أغلبيته، وقتل فيها عقلية الثقة، وتحول الداعمون من موالاة يفترض أن تكون شريكة في الحكم وإدارة البلد إلى دمية تتبع للجنرال يوجهها كيف شاء، يقضي أموره بغيابها، ولا يستشهدها بالحضور..

ولم تكن نتائج هذا التصرف خافية عن المراقبين، فكل مشاريع الحوارات التي روجت وسائل الاعلام لم تكن الأغلبية طرفا فيها ولا معنية بها، وإنما هي أساسا بين المعارضة وشخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز.

وخلال فترته العلاجية بباريس بعد الرصاصات الصديقة تحدثت أوساط إعلامية عن حوار مطروح من طرف رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بولخير، لكن ردود الأغلبية حينها على ذلك الحوار ظهر فيه الارتباك، والعجز الواضح عن اتخاذ موقف رسمي من الحوار في ظل غياب "الشخص الموجه".

 

صناعة الأعداء

بعد أن تعامل الجنرال مع أغلبيته بهذه السياسة الاستعلائية، صار يعتبر أي اختلاف جزئي معه خروجا عن منهجه التحكمي، وبات الانتقام الفردي هو الجزاء المباشر لكل من انحرف قيد أنملة عن الطاعة العمياء والمباركة التامة لكل ما يصدر عن الجنرال.

 

وقد بدأت هذه السياسة تتضح مع الأيام الأولى لحكم الجنرال عزيز، فقد فتح أبواب السجون لكل من يشم في تصرفاته رائحة مناوأة، مما فتح له جبهات معارضة لم تكن من المعارضة الراديكالية في التاريخ السياسي الموريتاني، وتعامل بسياسة مع ملفات لو أنه اختار التصرف معها بحنكة وعدل لما أنتجت له أعداء كان يمكن أن يكسبهم في جولاته الأولى..

كما أن حبسه لمدير صناديق القرض والادخار لم يكن قريبا من النزيه ولا الشفاف فبغض النظر عن البواعث الحقيقية عليه إلا أنه لم يكن إلا تصفية حساب شخصي لا علاقة له بالفساد الإداري، وأنتجت تلك التصفية معاداة لرجل كان يحسب كأحد الموالين للجنرال.

وفي هذا الصدد يمكن التغاضي عن مولاي العربي ولد مولاي امحمد، فحالة ذلك الرجل ـ رغم انفضاح الجنرال فيها ـ كانت تصفية حساب مع معارض، إلا أنها ومع ذلك أضرت بسمعة عزيز، وصدر الحكم القضائي ليمثل تعرية للرجل وكشفا له ليظهر بحقيقته الواضحة الفاضحة.

ويتقدم بنا الزمن حتى هذه الأيام لنصحوا أحد أيامنا على مفاجأة لم تكن متوقعة، وهي انفجار العلاقة بين عزيز وأحد المقربين منه سابقا، بل وأخص خاصته رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو..

ويبدو أن ملابسات القضية بدأت منذو فترة من الزمن، وليست الضرائب المجحفة على رجل الأعمال بدايتها، وإنما مثلت المنعطف الأخطر الذي بدأت القضية تثار فيه إعلاميا.

 

وعلى الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يقول إن كل القضية باطلة إلا أن تسييسها باد على إدارتها، وصبغة الانتقام الشخصي الأبرز ما يميزها.

وأخطر ما في قضية ولد بوعماتو أن عزيز بدأ يدخل الصراع لدوائر لم تكن في الحسبان، واستمراره في هذا النهج يمثل خطرا حقيقيا على مستقبله السياسي..

وقد تداولت أوساط مطلعة نبأ إيفاد ولد بوعماتو أفرادا من أعيان المجموعة التي ينتمي إليها هو والجنرال، وتهديد الأول للجنرال بكشف ملفات ليست في صالحه.

 

البديل

 

لا بد وأنه مع تفكير عزيز في الانتقام من كل من أبدى عدم رضى لتصرفاته يكون الجنرال يبحث عن طوق نجاة يمكن أن يجعله بديلا عن العصابة التي كان يحكم بها، وبدأت كل المؤشرات تدل على أنه بدأ يفقده.

ونظرة سريعة لتصرفات الرجل تقول إن بديله عن داعميه السابقين يتمثل في ثلاثة أصناف من الناس:

-        الصنف الأول هو أفراد من أخص أقاربه يعينهم على القطاعات الحساسة في الدولة ويأتمنهم على أمواله الخاصة، ويجمع لهم رؤوس أموال طائلة تمكنه من دخول السوق فعليا، لتخلوَ له الساحة عند القضاء على منافسيه، وليست تصرفاته مع ولد بوعماتو إلا مظهرا من تجليات هذا البعد.

-        الصنف الثاني هم الأصدقاء القدامى الذين ترعرع الجنرال معهم، وأدام ممارسة لعبته الفضلى معهم، وهنا يظهر أحد القافزين مؤخرا كرقم أعمال وطني بعد أن وفر له عزيز فرص عمل عدة في شركة نقل ما، وشركة طرق وبنك... إلى غير ذلك من المشاريع المدرة للدخل.

-        أما الصنف الأهم فهم العصبة الأمنية التي يركز الجنرال على شقيها المتمثلين في الجهاز الأمني القديم في الدولة الموريتاني، والشق الثاني الذي يعمل عزيز على تكوينه من معارضيه ويستخدم في ذلك وسائل متعددة منها الاغراء والتهديد بل وصلت لاستخدام مسائل ساقطة تحكم عن طريقها في فردين كانا من أبرز مناوئيه منذو انقلابه على سيدي ولد الشيخ عبد الله.

وأخطر ما يمثله هذا البديل هو اتكال الأمور العامة على غير الأكفاء، وبناء إدارة من الفاشلين، النفعيين الذين يمثلون خطرا استراتيجيا على البناء الإداري للدولة الموريتانية.                   

11. فبراير 2013 - 11:08

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا