تكفيريون لائكيون/ أحمد ولد الوديعة

مثلت الحالة التكفيرية وجها من أوجه أزمة أمتنا المتعددة الملامح ، خلال العقود الماضية بما رسخته من إقصاء للمخالف ودفع له خارج ميدان الفعل والتدافع السلمي بل وحتى خارج الحياة نفسها أحيانا، وانبرت تيارات عديدة لمواجهة هذه الظاهرة بالحجة ،كما أخذت أنظمة الحكم على عاتقها مواجهتها بوسائل متعددة يميل أغلبها للقمع والعنف،

ورغم كل ذلك استمرت الظاهرة إلى أن قامت ثورات الربيع فتوقع عديدون أن تسحب  الثورة البساط من تحت القوى العنيفة والتكفيرية لكن المفاجأة كانت كبيرة ؛فقد كشف الربيع عن أبعاد وامتدادات جديدة للحالة التكفيرية لم تكن مرئية في السابق أعني الحالة التكفيرية " اللائكية".

  كانت بوادر هذه الحالة ملحوظة في عدد من الدول والسياقات لكن الاعتقاد السائد  أنها لها ارتباطا وطيدا أنظمة الحكم ليتبين  - عكس ذلك - استقلالها عنها وانتمائها لمنطلقات  إيديولوجية شديدة الوضوح والصرامة في الحكم بكفر التيارات المخالفة بالملة الديمقراطية وبشرعة حقوق الإنسان وبضلالها المبين عن قيم الحداثة والتنوير.

 ومع الاختلاف البين  في منطلقات الحالة التكفيرية اللائكية والحالة التكفيرية الدينية لكن نتيجتهما واحدة فكل  منهما تحتكر " الحقيقة" وتحكم على المخالف - مهما ادعي وأظهر من  قناعة - والتزام  بأنه مارق خارج عن الملة ،منافق  يظهر عكس ما يضمر، يمارس ازدواجية الخطاب يحدث الأنصار بلغة ويخص الشركاء بلغة  وبالنسبة لكلا الحالتين " الآخر" شر كله لافرق فيه بين من يدعي اعتدالا ومن يجهر بالغلو فكلهم ملة واحدة وكلهم مسؤولون عن ما نعاني إن لم تكن المسؤولية مادية فهي مسؤولية معنوية!!!

 في تونس ومصر حيث ازهر الربيع أول مرة ازدهرت الحالة التكفيرية اللائكية واصطف في صفوفها كثيرون من " النخب الحداثوية" التي أعلنت حالة استنفار قصوى في وجه "المشروع الظلامي" الذى  تقدمه النهضة والإخوان في البلدين وتحالفت تيارات يسارية وقومية في البلدين  ضد "  الخطر الإسلامي" وانبرى العديد من الكتاب لاكتشاف " الخلفيات العنيفة" للإخوان والنهضة وازدهرت سوق المسؤولية المعنوية التي حاولت بها الحالة  التكفيرية اللائكية أن تحشر حكومات الربيع في نفس المقاربة الأمنية القمعية الفاشلة ضد المخالف التي دأبت عليها أنظمة القمع التي استلمت أوطاننا من الاستعمار فحولتها إلى " ممتلكات خاصة" وسجون كبيرة

سطر زعماء " التكفيرية اللائكية" نظريات  عن نفاق الإسلاميين فهم يعلنون أنهم يؤمنون بحقوق الإنسان لكنهم يضمرون الإيمان بها على مرجعيتهم والمطلوب هو الإيمان بكونية حقوق الإنسان التي لاتعترف بأي أختلاف أو تنوع أو خصوصية والتي تضمن أيضا الاعتراف بلائكية الدولة  والمجتمع، ومن لم يعلن ذلك  صراحة  على مراد زعماء الحالة فهو كافر بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويريد فقط أن يستخدم هذه الشعارات ليصل إلى الحكم فيقيم نظام حكم " قروسطي تيوقراطي ديني متخلف"

 إن الاختلاف مع الحركات الإسلامية التي وصلت للحكم في عدة دول مشروع ومطلوب وطبيعي، مشروع لأنها  حركات سياسية تقدم مشاريع للحكم فيها  الصحيح والسقيم، ومطلوب لأن في ذلك ضمانة لعدم تغولها وتكرارها لتجارب سابقة وصلت  رافعة شعارات الحرية وانتهت أحكاما أحادية متسلطة، وطبيعي لأان التعددية سنة كونية وحقيقة اجتماعية فمجتمعاتنا مهما التفت حول تيار من التيارات  أوختارته في حقبة من الحقب أمة متنوعة وقد فشلت  عقود القهر التي مارستها الأنظمة العسكرية في تنميط مجتمعاتنا وجعلها تقتنع بنظرية أن القائد يفكر عن الجميع.

 وهنا في موريتانيا شديدة الارتباط بسياقات الفكر والثقافة المنتجة خارجيا – شمالا وجنوبا وغربا  وشرقا – وصلت الحالة مبكرا رغم  اختلاف الأرضية والسياق،  وهناك من يحتاج دائما لترتيب مزاجه وطقسه مع ما يحدث من صراعات خارجية ليزيد بها من معاناة شعب ما زال سؤال الدولة هو السؤال الأكثر إلحاحا على مختلف نخبه بغض النظر عن منطلقاتهم الفكرية ومراميهم السياسية، وهكذا ازدهرت كتابات وتوجهات تأخذ على عاتقها إخراج التيار الإسلامي من حالة التدافع السلمي وتقديمه تيارا عنيفا ظلاميا عميلا لهذه الجهة الخارجية أو تلك.

 إن الاستقطاب الطبيعي في موريتانيا اليوم  هو استقطاب بين من يريد إقامة دولة عادلة لكل مواطنيها وبين من يريد استمرار حكم تحالف العشيرة والبندقية ورأس المال وعلى من يؤمنون بالحداثة والديمقراطية والحكم الرشيد الانتباه لهذه الحقيقة والحذر من الانزلاق في معارك سيكون أكبر المستفيدين منها هم دعاة وحماة الحكم العسكري الاستبدادي الذى نهب الثروة ومزق الوحدة ورعى العنصرية والاسترقاق والتخلف والفقر والفاقة..

 ثم إن تصوير الإسلام على أنه مناقض للحداثة والرفاه ومسؤول عن كل المئاسي التي نعيشها هو أمر خاطئ وخطيئة في حق مشاريع التحديث والتحرير التي تحتاج للتأسيس على الإسلام لتنجز أهدافها.

وأعتقد أن الأفضل - بالنسبة لمن يرون  لمشاريعهم التحديثية أو التحريرية مرجعية أو منطلقا " علمانيا " الحذر من  فرض  مشاريعهم العلمانية على الناس وتصوير المخالف الإيديولوجي على أنه إنسان شرير ينتمي لزمن آخر ويحمل مشروعا هداما تنبغي تعبئة الصفوف لمواجهته بالمليشيات أو بإعلانات الكفر بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ففرض الرؤوى البرامج  إسلامية كانت أو علمانية أمر ترفضه منطلقات الإسلام والعلمانية ولايثمر إلا العنف والاستبداد والفرقة.

 لقد عانت مجتمعاتنا خلال  العقود الأخيرة من الحالة التكفيرية الدينية - التي خرجت من سجون الاستبداد - فشكلت تحالفا غير مقدس معه ضمن له البقاء في السلطة كل هذه الفترة، فهل تستلم الحالة التكفيرية اللائكية المشعل لتدخلنا في فصل معاناة جديد من خلال  " تكفير لائكي "  لشريك في الوطن تقول  أغلب الاستحقاقات الديمقراطية حتى الآن إنه الأقرب لاختيارات  شعوبنا المسلمة، ألم يأن لنخبنا أن تهتدي لإدارة حضارية لخلافاتنا الطبيعية والايديولوجية والعرقية والثقافية بل والدينية حتى...؟

11. فبراير 2013 - 16:57

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا