نحو مدرسة جمهورية - وطنية - حديثة / شامخ اسلم امبارك

أظهرت نتائج بكالوريا 2021 الوضعية الصعبة التي تعيشها منظومتنا التربوية منذ عدة عقود. كما كشفت عن الحاجة الماسة لإيجاد حلول جذرية لتصحيح مسار هذه المنظومة حتى لا تكون أداة لهدم القيم الجامعة وخطرا على ديمومة الاستقرار والأمن في بلادنا. وتتجلى الانعكاسات السلبية لهذا المنظومة في التزايد المستمر لمستوى البطالة في الأوساط الشبابية رغم الجهود المبذولة من طرف الحكومات المتتالية و انتشار  الممارسات والدعوات المثبطة للضمير الوطني وخطابات الكراهية الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت خطرا مقلقا على قيم الجمهورية وتماسك النسيج الاجتماعي الوطني.

و كنا قد اقترحنا في مقال سابق (منشور على موقع موريتانيا الآن، في مارس 2019) ما اعتبرناه أهم الإجراءات العملية لإحداث إصلاحات جوهرية في منظومتنا التربوية. وقد تركز الحديث حينئذ على أهمية حسن تسيير الموارد المتاحة وضرورة تحسين الظروف المادية والمعنوية للمربين وللمؤسسات التربوية وعلى ضرورة تفعيل أدوار مختلف الشركاء و خاصة الآباء أو أولياء الأمور من أجل القضاء على النواقص المعيقة. وسنحاول في هذا المقال الجديد، التركيز على الأهداف العامة للمنظومة التربوية أو بمعنى آخر التركيز على مضمون الرسالة التربوية للمدرسة الجمهورية بوصفها الركيزة الأساسية لإصلاح الاختلالات، ولحفظ القيم، والأخلاق و تجسيد تطلعات الأمة نحو مزيد من التطور والازدهار.

إن المدرسة بمفهومها العام (من الروضة إلى الجامعة) هي أهم أداة لتجسيد فاعلية الأنظمة التربوية التي تعبر عن الخطط و الاستراتجيات المرسومة لتداول المعارف والمهارات بين الأفراد. ومن الأهداف الأساسية للمنظومات التربوية تحقيق النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للشعوب وتعزيز قيم المواطنة والأمن والرفاهية للأفراد. وعلى العموم، تبين مقارنة الأنظمة التربوية الأكثر انتشارا الفارق الشاسع بين النتائج الإيجابية للأنظمة التربوية التي يمكن أن توصف "بالتفاعلية" والأنظمة التربوية التي يمكن أن توصف " بالجامدة أو الأبوية". حيث تتخذ الأنظمة التربوية التفاعلية من المؤهلات الذاتية للفرد ومن مشروعه العملي في الحياة، دافعا أساسيا لمقاربتها التربوية في تنشئة الفرد. في الوقت الذي يختصر دور الفرد في الأنظمة التربوية التي توصف "بالجامدة أو الأبوية" على تلقي المعلومات والمعارف دون أن يكون للمتعلم دور في انتقاء ما يهمه لتحقيق ما يطمح إليه. فالفرد في مثل هذه الوضعية، يبقي حبيس رؤية وحيدة قد تكبل مواهبه و طاقاته الكامنة. و لذلك فإن الأنظمة "التفاعلية" تتميز بمسايرتها للمتغيرات المتلاحقة والسريعة للحياة اليومية بفضل مواكبتها للفرد حسب مواهبه الفكرية وقدراته الذاتية.

ومن المؤكد أن النظام التربوي المطبق في بلد ما، لا يناسب بالضرورة بلدا آخر. كما أن المقومات الأساسية للأنظمة التربوية تتآكل مع مرور الزمن ومع المؤثرات الوافدة الكثيرة. ولتحقيق نهضة شاملة في بلادنا لابد من رسم نظام تربوي مؤسس على الحقائق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لشعبنا. فلسنا أقل شأنا من دول عديدة في إفريقيا وآسيا وشمال أوربا استطاعت بفضل تطبيق أنظمة تربوية تلامس واقعها، من تحقيق قفزة اقتصادية واجتماعية معتبرة.

تعود نشأة المدرسة "الجمهورية" في بلادنا إلى فترة المستعمر الفرنسي. وتعتبر هذه المدة فترة كافية لمراجعة الرسالة التربوية لهذه المؤسسة وفق معايير جودة جديدة تضمن لها مسايرة التغيرات المتلاحقة لشعبنا قصد تأطيرها وتوجيهها إلى ما يخدم المصلحة العامة ويلبي الحاجيات الآنية والمستقبلية للموريتانيين. إن المدرسة التي نعايش حتى الآن تعاني من انفصام شبه تام مع الحاجيات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لبلادنا ولذلك فإننا في حاجة ماسة إلى إنشاء مدرسة جمهورية حقيقية و حديثة، تكون قادرة على لم شمل غالبية الموريتانيين وعلى حل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية وتوفير أرضية صلبة لخلق جيل جديد يمتلك نفس القيم و المبادئ العامة و مسلح بالمواهب والمهارات الضرورية للتحكم في وسائل التطور التكنولوجي المعاصر.

إن إنشاء المدرسة الجمهورية الحديثة يتطلب أولا إشاعة العدالة في تسيير المصادر البشرية والاستغلال الأمثل للموارد المادية والمعنوية المتاحة ثم مراجعة الرسالة التربوية شكلا ومضمونا بوصفها القاعدة الأساسية لتنشئة أجيال الغد على قيم التضحية و المواطنة و احترام القانون والتشبث بالثوابت الجامعة. إن غربلة وتحديث المناهج التربوية الوطنية على أساس تلبية الحاجيات الآنية والمستقبلية لشعبنا أصبحت جوهر أي مقاربة إصلاحية. و من أهم الأهداف التي يتعين تضمينها للرسالة التربوية للمدرسة الجمهورية الحديثة ما يلي:

 تعزيز التواصل بين أبناء الشعب الواحد: حيث تشير المعطيات العالمية إلى أن اللغة هي البوابة الرئيسية لتربية الأجيال على نفس القيم والمبادئ الشاملة التي تحقق التماسك والانسجام الثقافي. ولذلك عمدت معظم الأنظمة السياسية عبر التاريخ إلى فرض لغة واحدة على أبناء شعبها لتوحيدهم وتقوية لحمتهم. ومع تنامي الديمقراطية أعطت بعض الأنظمة السياسية الحديثة حيزا من الحرية والانفتاح لتدريس بعض اللغات المحلية وذلك لتقوية أواصر التواصل بين أبناء الشعب الواحد.

و تقديرا لتاريخ شعبنا عبر مدارسه التقليدية (المحظرة) التي كانت مشعلا لنشر تعاليم الدين الإسلامي (الكحلاء و الصفراء مثلا و لا حصرا). واستحضارا لمسيرة التعايش والانسجام بين مختلف مكونات مجتمعنا. وتقييما لتجربتنا التربوية النظامية خلال العقود الماضية فإن التدريس بلغة القرءان، من الروضة إلى الثانوية، أصبح من أهم العوامل المساعدة على الرفع من فاعلية منظومتنا التربوية و تقوية قيم الأخوة و التعاضد بين أبناء شعبنا. وتقتضي ثقافة الاعتراف و التواصل بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني إلى ضرورة تدريس اللغات الوطنية الأخرى بطريقة تمكن الطفل الموريتاني من إتقان على الأقل إحدى اللغات الوطنية الأخرى، غير لغته الأم. كما يتعين عليه التمكن من إحدى اللغات العالمية الأخرى حسب ميوله وأهدافه الشخصية بوصفها لغة الانفتاح على العالم الخارجي. ويتعين التدرج في تدريس هذه اللغات من الروضة إلى الإعدادية حتى يتسنى للطفل الموريتاني التمكن على الأقل من ثلاث لغات: اثنتان محليتان و واحدة أجنبية. وستمكن هذه المقاربة حسب نظري من تجاوز مشكل اللغات في بلادنا وتقوية انسجام الأجيال الصاعدة وتهيئتها للمزيد من الوحدة والتآلف الاجتماعي.

التنمية الذاتية للفرد وتحصينه من المخاطر: ويتحقق هذا الهدف بمساعدة المتعلم على اكتشاف مواهبه الذاتية وتسليحه بقيم الإتقان والمبادرة وتحصينه من المخاطر التي تهدده فكريا أو جسديا، أو تهدد كيان مجتمعه. ولذلك يتعين إشراكه تدريجيا في العملية التربوية للرفع من ثقته في نفسه وتزويده بالمعارف والعلوم الضرورية للحفاظ على سلامته وسلامة بيئته. وتجسيدا لهذا الهدف يتعين إعطاء علوم التربية بمفهومها الشامل حيزا هاما في تكوين الفرد. ومن أهم المفاهيم التربوية التي يتعين على الفرد الاحتكاك بها وهو في سن مبكرة: التربية الذاتية أو الشخصية، التربية الإسلامية، التربية الصحية، التربية البيئية، التربية المهنية...الخ. فعلى سبيل المثال أدى عدم وجود ثقافة تربوية لتحصين الأجيال الصاعدة إلى انجرافها وراء صيحات و هفوات وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت بالإضافة إلى عوامل أخري في تدني المستويات و انتشار الكسل و اليأس بين المتعلمين.

 اختيار تعليم ذي التوجه الوظيفي و ربط المتعلم بوسطه الاقتصادي : لقد أثبتت الأنظمة التربوية الأكثر نجاحا أهمية التعليم المبني على التكامل ما بين الجانب النظري والجانب التطبيقي للعملية التربوية. فمن شروط فاعلية المناهج التعليمية تسليحها للفرد بالمعارف والمهارات الضرورية لإتقان مهن معلومة. وكذلك إعطاؤها للمتعلم حيزا من الحرية لتسخير مكتسباته المعرفية لتنمية مواهبه الشخصية و تحقيق تطلعاته الوظيفية. ومن إيجابيات هذا النوع من التعليم تلبيته لتطلعات الفرد في الحياة المهنية المستقبلية. فالمتعلم يبدأ بتحضير مستقبله الوظيفي شعوريا أو لا شعوريا، وهو على مقاعد الدراسة.

ويجب في هذا الصدد العمل على مساعدة الفرد على اكتشاف المهن وتهيئته للمساهمة في الحياة النشطة باستغلال كفاءاته الذاتية لتحديد مصيره المهني. ويتحقق هذا الهدف بتربية الفرد على قيم العمل وتسليحه بالمهارات الأساسية التي ستعينه على ولوج سوق العمل عند الحاجة و تحيي لديه روح المبادرة والابتكار. وتتجلي أهمية هذه المقاربة في تحويل فكر الفرد من التبعية والانتظار إلى الاستقلالية والمبادرة. كما أنها ستؤسس لتعلم المهن البسيطة التي تخدم المجتمع من زراعة وتنمية حيوانية وتجارة وإصلاح للمعدات وغيرها من المهن التي أصبحت جزءا من الحياة اليومية للفرد، والمجتمع. ويتعين في هذا النطاق ربط المؤسسات التربوية بالأنشطة الاقتصادية المنتشرة في حيزها الجغرافي أو تجهيزها بورشات للمهن البسيطة والمتوسطة حسب المراحل التعليمية.

تهيئة الفرد لامتلاك مواهب ومهارات متقدمة في مجال العلوم الدقيقة: لقد ساهم عدم الاهتمام بتدريس العلوم التجريبية بالطريقة الصحيحة إلى استمرار بلادنا ضمن الدول الأكثر فقرا. وللخروج من هذه الوضعية لابد من تسليط الضوء على هذه العلوم و الرفع من القيمة المعنوية لمن نبغ فيها من أبناء شعبنا و ذلك لتنشئة أجيال جديدة قادرة على خلق ظروف ملائمة لاستغلال الثروات الطبيعية وإنشاء صناعات محلية تؤسس لانطلاق نهضة اقتصادية قوية تساهم في الحد من البطالة والفقر. وحتى يحقق هذا التوجه الأهداف المرجوة منه لا بد من تزويد المؤسسات التعليمية بالورشات المهنية والمختبرات والأجهزة الضرورية لتفتق مواهب المتعلمين وتشجيع الباحثين على الاهتمام بتثمين الموارد الطبيعة لبلدنا.

إن أسباب ضعف منظومتنا التربوية متعددة ومتشعبة ويصعب حصرها. و من بين الأمور التي ساهمت في تدني نتائج هذه المنظومة:

 غياب معايير شفافة لانتقاء أصحاب الكفاءة و الخبرة في تسيير المؤسسات التنفيذية للمنظومة التربوية.

ضعف الموارد المادية المخصصة لقطاع التعليم مما ينعكس سلبا على أداء القائمين عليه و المستفيدين منه.

غياب التشاور المثمر ما بين مختلف الفاعلين و ضعف المشاركة المادية لإباء التلاميذ أو الطلاب كل حسب إمكانياته. 

غياب الدور الفاعل للمتعلم الذي هو حجر الأساس للعملية التربوية. فالاستعانة بمواهبه و تحمسه واندفاعه الشخصي يعتبر جوهر نجاح العديد من الأنظمة التربوية عبر العالم.

إننا بحاجة أولا إلى الاستقلال فكريا عن التبعية للخارج و البحث عن حلول لمشاكلنا بأنفسنا و فيما بيننا. إننا بحاجة إلى الثقة في أنفسنا و زرع الثقة في الأجيال الصاعدة و ربطهم بمحيطهم الثقافي و الاجتماعي والمهني قصد تنمية مواهبهم صغارا  وتسليحهم بقيم التكافل و الاحترام و المبادرة كبارا.

 

11. أكتوبر 2021 - 11:08

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا