من الواضح أن ما آل إليه واقع قطاع التعليم في البلاد اليوم أصبح يحتم علينا التفكير جماعيا، بعمق وبجد، في وضع استراتيجية وطنية جامعة، نأمل منها أن تضع هذا القطاع الحيوي على السكة الصحيحة من جديد.
وليست العودة للحديث عن إطلاق جلسات تشاورية حول التعليم، وتحديد الأيام القليلة القادمة لانطلاقتها، إلا من صميم الإحساس بضرورة التسريع بخروج تلك التصورات الاستراتيجية، التي ننتظر منها أن تكون المنقذ لقطاع، يوشك على الانهيار الكلي.
وإذا كان التفكير في التشاور الوطني حول هذا القطاع ليس بالجديد، حيث أطلق النظام السابق منتديات للتعليم، إلا أن مخرجاتها ظلت حبسة الأدراج، وهو ما يسوغ للمتابع أن يتساءل، ما فائدة تكرار التجربة؟ أم أننا أمام إراة وتفكير، يختلفان عما سبق؟
وحاجتنا إلى التشاور في ظروف التوافق الحالي آكد، يشجعه ظهور كثير من مؤشرات الإصلاح، خلال السنتين الماضيتين.
فماهي الخطوات التي على المسؤولين الحاليين القيام بها، من أجل الحصول على مخرجات، تلبي طموحاتنا في التشاور المرتقب؟
إن الإرادة الصادقة لإخراج التعليم من وضعيته الحرجة هي وحدها القادرة على إنجاح أي مشروع بهذا الحجم، ينتظر منه كل موريتاني واع، أن يعيد صياغة رؤيته التعليمية، أو يحددها بشكل واضح على الأقل - رغم تحفظ البعض، لتجارب سابقة- حتى نوجد مدرسة جمهورية، قادرة على تحقيق طموحات الأمة الموريتانية في الحاضر والمستقبل.
ويعتبر هذا التشاور من أهم النقاط، التي تعهد بها الرئيس محمد ولد الغزواني في حملته الانتخابية، مما يؤكد أهمتيه لدى الرجل، خصوصا وقد أسندت إدارته إلى المجلس الوطني للتهذيب، برئاسة وزيرة التهذيب السابقة السيدة "نبقوها منت حابه" والتي تتمتع بسمعة طيبة، وتعتبر فترتها الوزارية -رغم قصرها- من أجرأ المحاولات السابقة، لإصلاح التعليم.
ومع أن الوزارة أعلنت عن هذا التشاور مبكرا، إلا أن عوامل عدة من بينها جائحة كورونا أدت إلى تأخير انطلاقته في مواعيد سابقة.
واليوم، ونحن على أبواب انطلاقة هذا المشروع الوطني الموعود، ينبغي أن نعي حجم المسؤوليات الملقاة على عواتقنا جميعا، وعلى المهتمين بقطاع التهذيب خصوصا، فنساهم في إنجاحه، كل حسب موقعه، حتى نجد ثمرته المتوقعة.
إن أول ما ينبغي للمشاركين في هذه الأيام التشاورية هو:
- تحديد الغايات التربوية من إنشاء مدرسة وطنية موريتانية،
- ثم تحديد معالم هذه المدرسة،
- والأسس التي يقوم عليها التعليم الجيد، الذي يحافظ على خصوصيتنا الاجتماعية، ويواكب التطورات العالمية،
وفي هذا الصدد تنبغي:
- إعادة التفكير الجدي في لغة التدريس، وتمكين الطالب منها، حتى يتسلح بالقدرة على الفهم والاستيعاب للمادة المحمولة،
- التفكير في جعل البيئة التعليمية بيئة جاذبة للكفاءات الوطنية، وللمتميزين من أبنائنا، حتى يتم إيجاد طاقم تربوي قادر على النهوض بالعملية التربوية، والمساهمة فيها بكل فعالية، فينتج تعليما ذا جودة عالية، ويؤدي الرسالة المنوطة به.
- ثم تتوج هذه الجلسات بصياغة قانون توجيهي، يخدم الأهداف العامة للاستراتيجية التعليمية في البلد.
وحتى لا يكون هذا التشاور ساحة، لتسجيل النقاط، ولقاء من اللقاءات الكرنفالية، التي مصيرها الفشل، على الحكومة - بوصفها الراعي لهذا التشاور- أن تجعله مرآة صادقة، لما تطمح إليه الإرادة المجتمعية، لبلورة فكر وتصورات، كفيلين بضمان حاضر البلاد ومستقبلها بين الأمم، بعيدا عن تطفل المتسلقين، أصحاب الرؤى التجزيئية الضيقة، وتقوم بإشراك كل الفاعلين في مجال التعليم من نقابات وروابط لآباء التلاميذ، ومنظمات مدنية فاعلة في المجال، ونشطاء وخبراء تربويين...
إن جلوس كل الموريتانيين على طاولة التشاور، من أجل التفكير بجد في إصلاح التعليم، هي مرحلة مهمة في مسار القطاع، ونهوض الدولة الموريتانية، وبنائها؛ ولكن لابد من إرادة صادقة وعمل دؤوب، يصاحبان هذا التفكير، حتى تتوفر كل أسباب النجاح، وهو ما نأمل أن تجسده تحركات الحكومة الحالية في مجال التعليم.