الإبل تراث عربي، افتخروا به، وخلدوه من خلال أعمالهم الشعرية والنثرية، فكانت جزءا لا يتجزأ من قصائدهم العصماء، يمعنون في وصفها، عشقا، وتشبثا بها، حنينُها غناءا لهم، وصبرها قوة لهم، ألفوا فيها الكتب، ولم يتركوا منها عضوا إلا وصفوه، فذكروا سماتها وأمراضها، وحنينها، وصبرها، وتحملها، فكانت كل هذه المواضيع مشاغل لغوية ومعجمية، يشتغل بها الباحثون، ليقدموا صورة واضحة لها.
وكنت قرأت منذ فترة مقالا للعلامة راشد بن حمدان الأحيوي عن سمات الإبل، نشرته مجلة "العرب" الغراء ضمن سبع حلقات، تناول فيها الباحث كل ما له علاقة بالسمات، إلا أنه لم يستوعب كل تلك السمات، فكتبت مستدركا عليه مجموعة من السمات ونشرت الموضوع في المجلة (العرب) السابقة الذكر وهي تصدر بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، وعن مركز حمد الجاسر، وقد ختمت تلك الدراسة بفقرة تختص بهذا الجانب عند أهل بلاد شنقيط فقلت: وأختم بالقول إن القبائل في بلاد شنقيط (موريتانيا) يتمسكون بثقافة وتقاليد أجدادهم العرب في حياة البادية من حب لما يسمونه سفينة الصحراء وهو الناقة والجمل، ومن تلك المحبة ما له علاقة بسمات الماشية عندهم وخاصة الإبل، فمما يقولونه من ثقافتهم، نار من؟ وعلامة من؟ يقصدون: هذا ميسم من؟ وتلك علامة من؟ كما أنهم يسمون بعض تلك السمات بسمات محلية لها علاقة ببئتهم، مثل: لحبارة، أكبار، السويبة، المرقاية، وغيرها. وبما أن لكل قبيلة عربية سمة تعرف بها فكذا قبائل عرب بلاد شنقيط. والعلامة عند الشناقطة تكوى بها الإبل على أعناقها، وأفخاذها، وهو ما ذكرناه أثناء البحث عند قبائل العرب. فهذا كله يثبت الترابط الكبير بين القبائل العربية في شتى أقطار الدول العربية، كما يؤكد الصلة التي لا تنفصم بين ماضي العرب وحاضرهم.
وما إن أكملت ذاك البحث حتى تبين لي أن سمات الإبل منوطة بالبحث عن أدوائها، فاشتغلت على نفس الموضوع، وجمعت كل ما له علاقة بتلك الأدواء(الأمراض) حتى استوى الموضوع على سوقه، ثم نشرته في مجلة آفاق الثقافة والتراث التي تصدر عن مركز جمعة الماجد في مدينة دبي، وقد أنهيته كما أنهيت سابقه بقولي: وأخيرا نربط أواصر القربى والرحم مع أشقائنا في عرب الجزيرة وحبهم للإبل، فنقول بأن هذه الأدواء التي جمعتها مصادر العربية، والتي لا تزال تظهر عليها في عصرنا الحاضر، هي نفسها عند المجتمع العربي في بلاد شنقيط، فحينما تسأل العربي هنا عن ماذا أصاب دابته؟، فيجيبك بأنها مدبورة، وهي "الدبر" كما بينا، أو هي "منحوزة" أصابها " النحاز" أو هي جرباء، أصابها الجرب، إلى غير ذلك مما بيناه خلال متابعتنا للبحث. والدواء يكون بطلائها بالقطران. وكل ذلك تناغم مع بيئة العرب، ودابتهم المفضلة.
ونذكر هنا أنموذجا من كلا البحثين حتى يتبين القارئ في بلادنا ماهية الموضوع:
الإدبارة:
ومن المواسم الإقبالة والإدبارة. قال أبو عبيد: ناقةٌ ذات إقبال وإدبار إذا شُقَّ مقدّم أذنها ومؤخرها وفُتِلت كأنها زَنَمَة. قال ابن دريد: ناقة مُقَابَلَة مُدَابَرة.[1]
والناقة مقابلة مدابرة، وهو أن تشق أذن البعير من مقدمها، ثم تفتل فتصير مثل الزنمة، فهذه المقابلة. فإذا شقت من خلفها وفتلت فهي المدابرة.
وقال ابن قتيبة: "ما يعرف قَبِيلا من دَبِير" القَبيل : ما أقبلتْ به المرأة من غَزْلها حين تَفْتِله والدبير : ما أدبرت به. وقال الأصمعي : أصله من الإقْبالة والإدْبارة وهو شَقٌّ في الأذن ثم يُفتَلُ ذلك فإذا أقبل به فهو الإقبالة وإذا أدبر به فهو الإدبارة. والجلدة المعلقة في الأذن هي الإقبالة والإدبارة.
أما الأدواء (الأمراض)، فمنها:
-الهَمَجُ: قال ابن السكيت هَمَجَت الإبلُ من الماء تَهْمُجُ هَمْجًا: شربت منه فاشتكت عنه. قال الخليل: أَمِجَت الإبل اشتدّ بها الحر أو العطش.
وخاتمة القول أننا أثرنا هذه البحوث للتذكير بها وتعريف القاري في بلادنا بما ننشره في مجلات خارجية قد لا تكون متوفرة، كما أن مثل هذه البحوث تعد مشاغل معجمية قد يستفيد منها طلبتنا في الدراسات العليا لبناء بحوث وتطويرها، وتوسيعها ضمن مجالات قد تكون متصلة بهذا الحقل المعجمي أو ذاك.
ولا تزال مثل هذه البحوث مفقودة في جامعاتنا، مما يتطلب من الطلبة والأساتذة المؤطرين أن يوجهوا طلبتهم إلى مثلها، لفائدتها في الحقلين اللغوي والاجتماعي.
[1] المخصص ـ لابن سيده: 2/ 216