في السياسية لا مجال للمساومة على المواقف ما دامت مبنية على وقائع حقيقية وملموسة، متزنة ومتناسقة مع رغبات الناس، وآمالهم، وأحوالهم، وما يتعرضون له عن قصد أو عن جهل من السلطة الحاكمة.
ولا مجال أيضا للتخلي عن الدور الحزبي الذي أقره الدستور وأقرته القوانين الناظمة والنظم الداخلية والقرارات ودوافع الانتساب للأحزاب السياسية "الدوافع السياسية البحتة"، والحزب ليس ملكا شخصيا، وليس كذلك مؤسسة تسير طبق رغبات الغوغاء، والعاطفيين، الحزب مؤسسة أنشأت للنفع العام، وخدمة المجتمع، يجتمع فيها مواطنون على أمل تحقيق أهداف مشتركة والنهوض بالبلد إلى أسمى المراتب.
وحزب الرباط الوطني من أجل الحقوق وبناء الأجيال ليس ملكا للرئيس السعد ولد لوليد، ولا للرئيس السابق القائد محمد ولد عبد العزيز، بل هو حزب لكل مواطن يريد أن يتشارك هموم الوطن ويعمل على إيجاد حلول لها، من خلال عمل سياسي بناء، ومن خلال فاعلية وديناميكية الفعل السياسي.
حزب الرباط، عندما قررت قيادته المشاركة في الحوار، لم تقم بذلك بالنظر إلى اعتبارات شخصية، بل بالنظر إلى مصلحة الحزب أولا، ثم مصلحة القادة الذين يقودونه، والمشاركة ليست اعترافا للنظام بجديته، ولا بجدوائية ما يقوم به، فتلك أمور لا تتحدد إلا من خلال تعاطي النظام مع ما سيطرح في الحوار من أفكار ومقترحات ومن مشاكل يعاني منها المواطن أكان رئيسا سابقا مظلوما مسجونا خارج إطار القانون، أم كان صاحب حق ممنوع من حقه أيا كان. أما حزب الرباط فحضوره الذي فاجئ الرأي العام، في عدة أمور كانت ولا تزال مثار تساؤلات كبيرة من النخب، ومثار إعجاب من ألد الخصوم، كان أمرا طبيعيا لحزب سياسي يرفض أن يترك الساحة لمن يعبثون فيها بأساليب سياسية غير مجدية، ذات مطامح ومطامع نفعية شخصية، وتلك ليست هي رؤية الحزب، ولن يقبل بترك الساحة لأولئك يفعلون كما يحلوا لهم، أبدا مطلقا.
لقد تفاجئ كما قلت الرأي العام بحضور الحزب ممثلا في رئيسه الدكتور السعد ولد لوليد، وبرز ذلك جليا في حديث رئيس حزب الحاكم سيدي محمد ولد الطالب أعمر الذي خاطب الرئيس الدكتور السعد ولد لوليد، قائلا: "فاجأتني شجاعتكم، وجرأتكم، ومتأسفون حقا على ما في جعبتنا من سوء تقدير لمقامكم العلمي والفكري وقدرتكم الفائقة على الفعل السياسي".
ورغم أن هذا الكلام ساذج بالمفهوم السياسي، ورغم أن قائله لا يملك من أمر حزبه شيئا، إلا أنه جاء كتعبير تلقائي عن شدة الصدمة التي تعرض لها قادة الحزب الحاكم ومن يوالونهم من معارضة المصالح، وشخوص الفعل المشخصن، ومن يوالونهم كذلك من الهاربين من عشريتهم والمتنكرين لها الرامين عليها كل أفعالهم المشينة.
الحقيقة التي يحاول النظام إخفاءها هو مستوى الارتباك الذي عرفته مسرحية التمهيد للحوار، بسبب مستوى الجدية الذي أضفاه عليها مقدم الدكتور السعد ولد لوليد، وكأنهم جميعا ضد هذا الرجل، ويقف صوبهم وقفة لا يضاهيها في الصمود والإباء إلا وقفات الشجعان من أبناء قريش الذين جابهوا الكفار حيث لم يكونوا يتوقعون منهم ذلك، وكأني بالقوم يرددون : عجبا لهذا (السعد) كيف تجرأ على المجيء وكيف أخطأنا تقدير حضوره". لم يعد هناك إمكان بتنظيم حوار صوري ولا تلافي مواجهة ضرورة إصلاح العدالة، وللطيبين أقول، معنى إصلاح العدالة، يندرج فيه كل ما يتعلق بالرئيس السابق.
لقد كان كل واحد من الحاضرين ترتعد فرائصه إذ يرى في السعد نظرات الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ويرى في عباراته ونبرة صوته المتعالية عن كل قول مشين معيب، يرى كل واحد منهم في كل ذلك نموذج فكري يضربهم في الصميم، ويشل أدمغتهم عن التفكير، إذ يتقاسم نفس الأفكار ويبدع بتذكير الحاضرين وكأن المشهد يشي أنه في أي لحظة من الممكن أن يدخل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز على القوم وهم يجلسون تحت منجز من منجزاته الكبيرة، وأبصارهم تدور بين الباب و (وجه السعد) الذي يرونه أمامهم ولم يكونوا يصدقون ذلك، ولا يتوقعونه، ولم يكونوا يريدونه حاضرا بينهم، لأن الخطة كانت تقتضي ضرب السعد وضرب ولد عبد العزيز وكافة قيادات حزب الرباط في الصميم وإظهار من يدعمون الرئيس السابق على أنهم دعاة فتنة يرفضون الحوار، وهم ينسون أن مناضلات حزب الرباط دعون للحوار قبل أن تدعوا إليه الطبقة السياسية المتملقة الفاسدة المفسدة المحيطة بنظام الغزواني.
لقد نسي القوم أنهم حتى تلك الخطة تعلموها على مدرسة ولد عبد العزيز السياسية التي كانوا يعدون بتدريس حِكَمِهَا لأجيال المستقبل، لقد نسي الحاضرون أن ولد عبد العزيز كان دائما يقول دعوا المعارضة تفعل ما تشاء فكلما زادت زلاتها كلما زاد نفور الشعب منها، كلما أرادت أن تظهر بمظهر المتعنت ظهرت بمظهر المتشدد الرافض للحوار إلا بشرط تعديل مواد الدستور وما يتناسب ومقاساتهم وأعمارهم (المادة 70).
لقد كان النظام ومن يسيرون في فلكه يريدون منا في حزب الرباط ألا نحضر، وقد دعينا، وألا نهتم بشؤون الوطن، وأن نتبع طرقهم القديمة التي حرمتهم من البرلمان، وحرمتهم من المجالس الجهوية والمجالس البلدية وحرمتهم حتى من المنابر.
كان الخبر عليهم كالصاعقة، وكأن كل واحد منهم كان على يقين أن الساحة ستخلو لهم، وانهم سيفلعون ما يشاؤون بها، لكن لم يكتب لهم ما أرادوا.
لقد قدم السعد ولد لوليد درسا لولد الغزواني لن ينساه أبدا، وأراه مدى عجزه سياسيا عن الوصول إلى ما يصبوا إليه، ليكون التمهيد للحوار رحلة أصعب من رحلة محاولة اختطاف الحوار واستبداله بخوار معارضة العجزة، وموالاة الأرز الفاسد، والمؤسسات المفلسة.
كل شيء في تلك القاعة كان يهتف عزيز، وانقسم الحاضرون بين من يكرر "نعم للمأمورية الثالثة" وبين من يكرر "عزيز راجل"، وبين من يستغيث ويسال الله ألا يدلف من أحد أبواب أكاديمية العشرية، الرئيس السابق والغزواني يسير خلفه يمد يده كل مرة ليعبر عن استعداده ليكون دائما خلف القائد، "أخي وصديقي"، "ورفيق دربي" ولعله يقول بعدها "الذي تخليت عنه وظننت أنه يمكنني تدميره والرقص على جثته الهامدة، فإذا به يخرج لي من كل مكان"، كمن يحاول عبثا حبس الماء بيديه، فأنى له ذلك؟
لقد أحرج السعد ولد لوليد النظام، فلم يعد له بد من مواصلة الحوار، ولم يعد له بد من الخروج بالحوار بما يعكس الصورة التي برزت في التمهيد، صورة السعد ولد لوليد، فلا سبيل إلى مخرجات من الحوار لا تبرز فيها بصمات السعد، الذي رفع يده في مؤتمره الصحفي اللاحق على جلسة التمهيد وقال "حزب الرباط هو الممثل السياسي الحصري للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز"، ليتأكد من جديد أن ولد عبد العزيز ليس مسجونا، بل حر طليق، فكل رجل من الذين يدعمونه بألف من الذين يدعمون نظام الفشل والفساد.