التعليم هو عملية تواصل تهدف إلى نقل المعارف وبناء البنية الذهنية المناسبة إعدادا للفرد ليكون قادرا على لعب دوره التنموي. أطراف عملية التواصل هذه هي المعلم والمتعلم وكتب التدريس وتشكل اللغة قناتها الأساسية. فبقدر إتقان المعلم والمتعلم للغة التدريس تتحدد وتيرة تدفق المعارف وفاعلية عملية التعليم. وإن استخدام لغة لم تكتسب بعد كلغة تدريس, يكبح عملية التعليم من خلال خنق قناة التواصل, فيعيق انسيابية تدفق المعارف, ويحجم المعلومات المكتسبة ومستوى عمق فهمها. فنحن باستخدام لغة لم تكتسب بعد في التدريس نعيق الهدف الجوهري للعملية التعليمية ونضع مطبات غير ضرورية, يعجز كثير من الأطفال عن تجاوزها, فنزيد التسرب المدرسي ونحول بين كثير من أبنائنا ومعارف ضرورية في حياتهم المستقبلية.
وإن تطور الأداء الذهني للأفراد يرتبط ارتباطا وثيقا بحجم المعارف المكتسبة خلال كل مرحلة من مراحل العمر. فإذا أعقنا وتيرة اكتساب المعارف بخنق قناة التواصل من خلال استخدام لغة لم تكتسب بعد, فإننا بذلك نعيق تطور الأداء الذهني للمتعلمين. فباستخدامنا للفرنسية أو غيرها من اللغات التي لا تتوفر لها ظروف الاكتساب المجتمعي في بلدنا نكبح عملية التعلّم, ونعيق تطور الأداء الذهني لأبنائنا, ونهيئ ظروف استفحال التسرب المدرسي والخروج من العملية التعليمية دون الحد الأدنى من المعارف الضرورية للحياة ولإسهام الفرد في العملية التنموية, ونحكم على الغالبية العظمى من الذين لا يعرف آباؤهم الفرنسية ولا يستطيعون دفع حصص خارج إطار التعليم النظامي بالفشل المدرسي, وبتدهور نوعية التعليم للقلة الباقية, دون أن يكون لذلك تأثير يذكر على تعلم الفرنسية, لأن الفرنسية يمكن أن تكتسب دون أن تستخدم كلغة تعليم حالها في ذلك حال سائر اللغات الأجنبية.
إن الاكتساب المجتمعي -المتاح لجميع الأطفال- للغة ما في مجتمع معين لا يتأتى دون توفر أحد عاملين أن تكون هذه اللغة لغة التخاطب في الغالبية الساحقة من البيوت أو أن تكون لغة الحديث في الشارع. دون توفر أحد هذين العاملين يبقى الاكتساب الجماعي للغة ما مستحيلا, ويبقى التدريس بها إقصاء متعمدا لأولئك الذين لا تسمح الظروف المعرفية أو المادية لآبائهم بتعليمهم إياها, وتعطيلا مقصودا للمصعد الاجتماعي. وإن الاكتساب المجتمعي لا يتوفر موضوعيا إلا للغة العربية التي في نسختها العامية هي لغة الشارع أو إحدى لغاته في جميع مقاطعات الوطن ويستطيع كل طفل أن يكتسبها من أقرانه في الشارع وإن التدريس بغيرها حجب للعلم خلف ضباب اللغة.
على محبي الفرنسية - وأنا أحدهم, وهي تستحق كل الحب, فهي لغة جميلة ترتسم الابتسامة على وجوه أهل الأرض حين تدغدغ آذانهم. تضوع من قيود تصريفها رائحة الحرية, عبق نضالات الإنسان من اجل الإنسانية, تتشبع بالعقلانية تنفثها مفاهيما إلى لغات العالم, ولا شك أن معرفتها تساعد في حبك وترسيخ نسق التفكير العقلاني المجرد - والعاملين على نشرها أن يدركوا أنهم لا يقدمون لها خدمة بزرع كراهيتها عند أطفال تحول بينهم والعلم وعند آباء يرون أطفالهم يكاد العلم لا يتراءى لهم خلف الضباب الكثيف للفرنسية.
وإننا نعلم جميعا - كتمنا ذلك أو عبرنا عنه - أن اكتساب لغة أجنبية لا يمر بالضرورة بالتدريس بها في المراحل الأساسية والثانوية وإلا لما كان ملايين الناس عبر العالم تعلموا الانكليزية في بلدان لا تُدرّس بها. وإنما لاكتساب لغة أجنبية يكفي تدريسها وفق خطة محكمة, وأن نضمن حصول المتلقين على المستوى المطلوب من خلال عملية تحقق دورية من المستويات تنظمها سلطة مركزية مستقلة عن مؤسسات التدريس, مع إلزام الذين لم يحصلوا على المستوى المحدد لمرحلتهم الدراسية بدورات صيفية تكميلية مكثفة للحصول على المستوى المطلوب والمتابعة خلال السنة اللاحقة مع زملائهم دون صعوبات. لمزيد من التفصيل عن هذه الآلية راجع الجزء الأخير من المقال “لغة التدريس.. ورقة للمشاورات التربوية” على الرابط أسفله.
إن كل لغة تكتسب تفتح نافذة على المعرفة, تتسع باتساع ما أنتج بها وينتج. وإن الفرنسية تفتح نافذة واسعة على المعرفة لعلها الأوسع بعد الانكليزية خاصة في الإطار الجغرافي والتاريخي لبلدنا. ولا يتعلق الأمر هنا بمحاولة تحجيم أهمية اكتسابها وإنما يتعلق بالعمل على إخراجها من وضعية العائق المعرفي إلى وضعية السّلّم إلى المعرفة, وذلك من خلال إزاحتها من وضعية القضبان التي تسد منفذ أبنائنا إلى المعرفة عبر استخدامها كلغة تدريس قبل اكتسابها - وضعية هي في غنى عنها ولن تورثها إلا كراهية لا تستحقها - إلى وضعية النافذة المعرفية المشرعة من خلال تأمين اكتسابها عبر تعليمها وفق خطة محكمة. وإن استخدام لغة ما كلغة تعليم لابد أن يكون لاحقا لاكتسابها لا سابقا عليه.
وفق الله وأعان
----------------------
* هذا المقال هو الجزء الأول من ورقة طويلة تحاول معالجة مختلف جوانب إشكالية لغة تدريس المواد العلمية نشرت تحت عنوان “لغة التدريس.. ورقة للمشاورات التربوية” تجدونها كاملة على هذا الرابط