من فتاوى العلامة محمد يحيى الولاتي / إسلم بن السبتي

تراث الفتاوى والأجوبة عند العلامة محمد يحيى الولاتي، تراث غزير، طال كل الموضوعات التي شاعت في عصر المؤلف، وقد اقتحم لجة بحرها الطامي، وسخر لها من بحر علومه الزاخر، وقدم فيها دروسا معرفية لكل مطالع، وسجل فيها مناهج قويمة في المناظرة والإقناع. وقد وقفت على نسخة بخطه رحمه الله تقدم ذاك اللون، فأردت أن أتحف بها القارئ ليستفيد من بعض جوانبها المعرفية والمنهجية.

فهذه الفتوى التي موضوعها زكاة غلة الإبل مجهولة المصدر، وهذا يفهم من مقدمته المنهجية حيث قال:" أما بعد، فإن ما اعترض عليه بنا هذا المعترض في شأن زكاة غلة الإبل المقتناة، كله خطأ حمله عليه عدم فهمه لكلامنا في الفتوى التي اعترضها علينا، وعدم فهمه لنصوص الفقهاء، وحدوداتهم الواردة، وحد الربح والغلة، فجعل يحتج  بما هو حجة عليه، وينتج من الحدود الشرعية نقيض ما تدل عليه، ويختلق علينا ما لم نقل ثم يعترض".

وبعد هذه المقدمة الشديدة الإحكام يتحفك المؤلف بما سيقوم به ضد هذا المعترض المجهول، فيقول: "وها أنا أريد أن أنبه على خطئه فيما قال، وأحتج عليه بأدلته التي احتج بها بأن أثبت بها نقيض ما أثبت هو بها، وأبين وجه الدلالة منها على ذلك وأبين عدم دلالتها على ما استدل بها هو عليه، وهذا هو القادح المسمى عند الأصوليين بالقلب وكفى به قادحا. فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق".

وبأسلوبه في تقديم الموضوع يبدأ بالدعاء له وللمعترض معا فيقول:" قال المعترض سددنا الله وإياه قال ابن عرفة في مختصره الفقهي: والربح: زائد ثمن مبيع تجر على ثمنه الأول ذهبًا أو فضة، إلى أن قال: فانظر انطباق التعريف المذكور على كون ثمن الملح المبيع في السودان ربحا لا غلة سواء أتى به ربه من بلد أو كان ثمة، وسواء كان محمولا على شيء للقنية أو للتجارة مملوك لزم أم لا. انتهى كلامه".

وبما أن المعترض لم يفهم قول العلامة ولم يتمكن من استيعابه " فكله غلط واضح ورمي في عماية لأني لم أقل في فتواي أن ثمن الملح المبيع في السودان كله غلة للإبل حتى يعترض عليَّ، هذا الاعتراض المجمل، بل قلت: إن الملح المحمول على دواب القنية وهو مثله فالموضع الذي حمل منه، وإنما حمله على هذا الاعتراض ما اختلقه علينا من أنا قلنا في الفتوى أن الملح المحمول على الدابة غلة لها، ولذلك رتب عليه قوله: فثمن السلع المحمولة على دواب القنية يبنى فيه على حول الثمن الأول على كل تقدير وعلى كل حال، فجعل يختلق علينا ويعترض على مختلقاته واعتراضاته، فيقال له أيها المعترض استفق وتنبه لما تقول فإن الذي تعترض عليه إنما هو مختلقاتك من عند نفسك".

ويختم هذه الفتوى بتتبع عبارات المعترض النابية، والتي تحتاج إلى أن يكون المحاور شديد الأدب، فاهما لمضمون الاعتراض، متشبثا بأخلاق العلماء، والتزام السكينة والوقار فيقول:" وأما قوله: وناهيك بهذا هوسا واختلالا، وقوله: ثم بنى على ذلك الهوس، فإنه من كلام السفه والإساءة الذي لا جواب له إلا الإعراض عنه".

فالعلامة خبر هذا النوع من المناظرات، وأراد أن يقدم درسا في اللباقة، وحسن التصرف، وأسلوب البلاغة والتبليغ، مما يكسب كل مناظر بعض الأدوات اللطيفة في الإقناع التي تحسب له ولا تحسب عليه.

وأخيرا مهر هذه الفتوى بخطه الجميل فقال: "وكتب هذا كله مجيبا عن زعمات هذا المعترض ومختلقاته عبيد ربه وأسير ذنبه محمد يحيى بن محمد المختار رزقه الله ووالديه والمسلمين شفاعة النبي المختار، آمين".

فهذه الفتوى التي وقفت عليها في إحدى مكتبات مدينة شنقيط العامرة، توضح بجلاء غزارة علم العلامة محمد يحيى الولاتي، كما توضح منهجه الممتع في المناظرات مما نتطلبه نحن في هذا الزمان حيث تنقلب مثل هذه الأمور إلى مشاحنات، وخصومات ومطارحات يبتعد فيها الجميع عن أسلوب الإقناع والاقتناع

11. نوفمبر 2021 - 11:11

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا