يضع الدستور في العادة صياغة عامة للمبادئ القانونية العامة التي تحكم الدولة، مثل شكل الدولة ونظام الحكم والسلطات واختصاصاتها والعلاقات بينها والحريات الأساسية والأعباء العامة؛ وغالبا ما يشير عند وضع كل مبدأ من المبادئ الكبرى إلى أن قانونا سيعتمد لتفصيل مقتضياته.
وعلى شاكلة نظيراتها وضعت المادة السادسة من الدستور مبدأ دستوريا هاما، ومطلبا وطنيا طال انتظاره، هو رسمنة اللغة العربية ووطنية اللغات الشعبية، غير أنها اختلفت عن غيرها من مواد الدستور الحاملة للمبادئ الكبرى، حيث لم تشر إلى صدور قانون يتناول المقصود بالترسيم والوطنية وكيفية تجسيدهما وما يجب أن يترتب عنهما. وإذا كان مفهوم اللغة الوطنية يحمل بالأساس دلالة ثقافية وبعدا تاريخيا مجمعا عليهما، وبالتالي لا يثير عدم تفصيله إشكالا ولا جدلا، كمالا يرتب آثارا قانونية، فإن مصطلح اللغة الرسمية على النقيض من ذلك تماما، من حيث عمق الدلالة القانونية وشحنة الحساسية التي يحملها، وبالتالي فمن المستغرب أن منظري الدستور لم ينتبهوا لضرورة تفصيله وتقنينه، إلا أن يكون في وضعه بهذه الصياغة هروب إلى الأمام تفاديا لجدل قد لا يتوقف عند مجرد الكلام!
تنص المادة السادسة من الدستور الموريتاني لسنة 1991، المؤلفة من سطر واحد على أن "اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية"، دون أن تضع تفاصيل حول مدلول الترسيم والوطنية وما يترتب عنهما، ودون الإحالة إلى قانون يحسم هذه المصطلحات.
وعلى خلاف المشرع الوطني فقد حرصت دساتير بعض الدول عند الحديث عن ترسيم اللغة على توضيح مدلولها، وأحالت إلى قانون خاص يتم وضعه لتحديد كيفية تجسيدها والغرض منها؛ فجاء في المادة الخامسة من الدستور المغربي لسنة 2011 ما نصه "تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية."
كما ينص الدستور الجزائري في مادته الرابعة (تعديل 2016) على أن "تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة ورسمية. تعمل الدولة لترقيّتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني. يحدث مجمع جزائري للغة الأمازيغية يوضع لدى رئيس الجمهورية. يستند المجمع إلى أشغال الخبراء، ويكلف بتوفير الشروط اللاّزمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسمية فيما بعد. تحدد كيفيات تطبيق هذه المادة بموجب قانون عضوي.
ما يحدث الفرق بين التكريس الدستوري للغة العربية في الدستور الموريتاني والتكريس الدستوري للأمازيغية في الدستور المغربي مثلا هو تأكيد الأخير على أن الأمازيغية هي "لغة رسمية للدولة" بينما اكتفى دستورنا بالقول إن اللغة الرسمية هي العربية. فماذا يترتب على تجاهل كلمة "للدولة" ؟؟
مصطلح الدولة هنا ينصرف إلى المؤسسات الرسمية، ويقابله مصطلح "الشعب" أو مصطلح "المواطن". ولا شك أن التأكيد على أن اللغة الأمازيغية هي لغة رسمية للدولة يعني أنه يجب على هذه الأخيرة أن تستعملها في معاملاتها وفي قراراتها وسائر أنشطتها الرسمية. ووفاء لهذا الواجب أصدر البرلمان المغربي قانون تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية سنة 2019، وصارت تكتب بحرف "تيفيناغ" إلى جانب اللغة العربية على واجهات العديد المؤسسات العمومية، كما يتحدث بها بعض النواب في البرلمان مع واجب توفير الأدوات اللوجستية لتوفير الترجمة.
وعكسا للمسار المغربي في التعاطي مع ترسيم اللغة الأمازيغية، وبسبب عمومية صياغة المادة 6 من الدستور الموريتاني وعدم ترجمة روحها في تشريع يضع التزامات قانونية ملموسة يجب احترامها ويترتب على مخافتها مسؤولية قانونية، لم تستطع هذه المادة إحداث قطيعة مع الممارسة القديمة - المستمرة - التي كرست اللغة الفرنسية لغة للمعاملات والمراسلات والخطابات والإشعارات والفواتير في الإدارة وفي شركات الدولة وحتى القطاع الخاص. وهكذا خلا الجو للغة الأجنبية التي واصلت هيمنتها في كافة قطاعات الإدارة، ولولا أن أغلب القضاة من ذوي التكوين المحظري أو الجامعي المعرَّب لكان القضاء بدوره مفرنسا، حيث ما زالت التوجهات الإيديولوجية والفكرية والميول اللغوية للفاعلين تتحكم في اختيار لغة العمل.
ولا تخفف من هذا الوصف القاتم لوضعية اللغة العربية مبادرات قليلة انتصرت لها في بعض الأحيان، منها إلزام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد الطايع لوزرائه بإلقاء خطبهم باللغة العربية، وكذلك قرار رئيس الجمعية الوطنية الحالي استعمال اللغات الوطنية دون سواها تحت قبة البرلمان وتوفير الترجمة بينها؛ مبادرات تذكر فتشكر غير أنها بالتأكيد لا تفي بالغرض من المادة 6 من الدستور.
طرق تدارك هذا الخلل ليست وعرة، بل سالكة إذا توفرت الإرادة السياسية وانقشع الخوف من رد فعل الفرنكفونيين وتجاوزنا عقدة لارابيزان (L’arabisant). لا يشترط لوضع قانون يفصل مبدأ دستوريا أن يكون الدستور قد اشترط إصدار مثل ذلك القانون. وعليه يمكن للحكومة في أي وقت تراه مناسبا أن تقوم بتقديم مشروع قانون يحدد مضمون الطابع الرسمي للغة العربية وكيفية تجسيده، وكذلك الطابع الوطني للغات الشعبية، كما يمكن لنواب الشعب أن يقترحوا قانونا بهذا الشأن وفق الصيغ القانونية المعرفة. ولا شك أن قانونا يدعم مكانة اللغة العربية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية سيلقى تفاعلا إيجابيا واسعا من الداخل، تفاعل قد يساعد في مواجهة محاولات وأده من الخارج وعملائه.
ولكي يفي أي قانون يعتمد لتكريس ترسيم اللغة العربية ويعرف طريقه إلى النور، يجب حتما أن يتفادى التَّزمت، بحيث يعترف للغات الأخرى بمكانتها كوسائل انفتاح وتواصل واستكشاف ويشجع تعلمها، وأن يتضمن في بنوده المداخل الأساسية لتحويل الترسيم الدستوري للغة العربية إلى واقع ملموس في الفضاء العام والخاص، الرسمي والمجتمعي؛ ومن هذه المداخل، مثالا لا حصرا:
إعادة النظر جذريا في إصلاح التعليم المعتمد سنة 1999؛
تأكيد إجبارية تعليم اللغة العربية من المراحل التعلمية الأولى وعلى امتداد التعليم المتوسط والثانوي والتقني والجامعي؛ ويجب أن يكون الهدف من هذا التعليم هو التمكين الممهد للقدرة على العمل والتعامل بها في مختلف المجالات، لا أن يقتصر على تعليم أبجديات اللغة ومبادئها؛
إجبارية تعليم جميع اللغات الوطنية على امتداد مراحل التعليم الأساسي والمتوسط بما يمكن الطلاب من إجادتها عند نهاية المرحلة الثانوية؛
إجبارية تعريب جميع المعاملات والفواتير، مع خيار الاحتفاظ بلغة أخرى تسهيلا للفهم على من لا يجيدون اللغة العربية، لكن مع الإشارة إلى أن اللغة العربية هي الأصل والمرجع في حالة التعارض بين اللغات؛
تعريب المراسلات والخطب الرسمية، سواء في التعامل مع الشركاء أو مع الدول أو أمام الهيئات الدولية؛
وجوب تنظيم المسابقات باللغة الرسمية للبلادـ، وأن تكون معرفة اللغة العربية شرطا إقصائيا دون أن تدخل في ضارب المسابقة حتى تؤثر على الامتياز التخصصي، خاصة بالنسبة للمسابقات العلمية. وتجسيد ذلك أن تقييم مستوى المتسابق في اللغة العربية قبل النظر في ورقة المسابقة، فإذا كان مستوى المتسابق مقبولا في اللغة العربية يتم تصحيح ورقته في المسابقة؛ ولا ينظر فيها إذا لم يكن ملما باللغة الرسمية للبلد ولغة العمل مستقبلا.
النص على دور اللغات الأخرى كلغات انفتاح وإثراء للثقافة والمعرفة والتواصل مع الأجنبي، وجعل معرفتها ميزة إضافية في اختيار الموظفين والعمال؛
النص على عقوبات جزائية رادعة ضد كل م يقف عائقا بأي وسيلة كانت دون تكريس اللغة العربية لغة رسمية أو من يحاول ذلك.
تطبيق إجراءات ترسيم اللغة العربية لا دفعة واحدة سيلحق بالغا بناس لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا وتكونوا في فضاء الكلمة فيه لغير أنصار العربية، ولذا ينبغي لأي قانون يرسمها أن يراعي التدرج في دخول مقتضياته حيز التنفيذ.
لئن كان ترسيم اللغة العربية دستوريا لغة رسمية وحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، إلى جانب اللغات الوطنية، هو الوضع السليم الذي يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية والتاريخية للبلد، فإنها في الواقع بقيت مغيبة على المستوى الرسمي. ولا يمكن تكريس مضمون المادة 6 من الدستور وتحقيق النتائج المتوخاة منها إلا من خلال إطار قانوني يحول هذا الرسيم إلى خطوات قابلة للتنفيذ والمتابعة بغية إحداث قطيعة مع الإرث الاستعماري في الإدارة والمعاملات، وفي التعليم والتكوين. وقد يكون للحراك المطالب بتفعيل الطابع الرسمي للغة العربية دور في تسريع صدور هذا القانون إن هو انتهز فرصة التشاور الحالي وواصل الضغط وأطال النفس.