أسدل الستار قبل أيام على ورشات التشاور حول إصلاح النظام التعليمي، تلك الورشات التي نظمت على المستوى الجهوي في الفترة من 21 إلى 24 أكتوبر 2021.
بين يدي الآن النسخة النهائية من تقرير الصياغة الذي صدر عن هذه الورشات والذي يقول إن عدد المشاركين فيها بلغ 878 مشاركا بشكل حضوري، و1.113.145 مشاركا بشكل افتراضي. وقد تضمنت الورشات التشاورية 12 موضوعا رئيسيا مطروحا للنقاش، منها على سبيل المثال لا الحصر، التوحيد الفعلي للنظام التربوي الوطني، تسيير الموارد البشرية وتثمين مهنة المدرس، ترقية تدريس الرياضيات والعلوم وتقنيات الإعلام والاتصال، والتعليم الخاص.
لو كنت ضمن منظمي ورشات التشاور، لركزت على ثلاث مسائل رئيسية تفسر بالنسبة لي أهم أمراض النظام التعليمي الحالي. هذه المسائل الثلاث هي: لغة التدريس، وتمويل النظام التعليمي، والتعليم الخاص.
وسأتناول في هذه الورقة موضوع لغة التدريس في النظام التعليمي الوطني، مذكرا في هذ المقام بأهم التوصيات التي حازت على مباركة أغلبية المتشاورين، ومعرجا قليلا على الوجه الآخر للغة التدريس وهو لغة الإدارة العمومية.
لقد طالبت أغلبية ساحقة من المتشاورين باعتماد اللغة العربية لغة للتدريس في النظام التعليمي الوطني، وقد نص التقرير النهائي على ذلك بشكل صريح في فقرات عديدة منه. ففي الصفحة السابعة منه، يقول التقرير: «تبلور تيار للرأي السائد بين المشاركين يدعو إلى التدريس باللغة العربية كلغة جامعة موحدة في المرحلتين الابتدائية والثانوية مع دمج اللغات الوطنية والأجنبية في النظام التربوي. وبذلك يكون اعتماد اللغة العربية كلغة التدريس الرئيسة هو الخيار السائد بين المشاركين الذين أوصوا كذلك بإدخال مناهج تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها في خطط التكوين الأولي والمستمر للمدرسين وتوحيد لغة التدريس في جميع المراحل بما يرتضيه المجتمع (العربية أولا ثم اللغات الوطنية ثم لغات الانفتاح)."
وفي معرض الحديث عن ترقية تدريس الرياضيات والعلوم وتقنيات الإعلام والاتصال، يقول التقرير في بداية الصفحة رقم 22:"... لكن العقبة الكؤود تتمثل في تدريس المواد العلمية بلغة أجنبية لا يملك التلاميذ منها الرصيد الكافي لاستيعاب المحتويات العلمية....".
ولئن كان من الجلي أن أغلبية المتشاورين على المستوى الجهوي قد أوصوا بشكل صريح، وبشكل ضمني كذلك، باعتماد اللغة العربية لغةً لتدريس كافة المواد في المراحل الابتدائية والثانوية، فإن ما رشح حتى الآن من معلومات عن التوصيات الختامية، التي صدرت مؤخرا، يمثل تراجعا عما تم إقراره في الورشات الجهوية.
إن تدريس المواد العلمية باللغة العربية في المرحلة الابتدائية فقط هروب من مواجهة المشكلة الجوهرية أو تأجيل لحلها إلى حين. وعندها ستكون المشكلة أكبر وأشد تعقيدا. تلك المشكلة التي تتمثل في وجود حاجز منيع، يشبه إلى حد كبير جدار برلين، بين أبناء غالبية كبيرة من الموريتانيين وبين تحصيل العلوم العصرية من رياضيات وفيزياء وكيماء وعلوم أرض وأحياء. هذا الحاجز المنيع هو اللغة الفرنسية، التي باتت سببا رئيسيا في ضعف مستويات التحصيل العلمي وانخفاض نسب النجاح، واستنزاف الجيوب في الدروس الخصوصية، وحرمان طيف واسع من الموريتانيين من فرص العمل في سوق التعليم.
الرابح الأول من الإبقاء على اللغة الفرنسية لغة للتدريس والإدارة هو الجمهورية الفرنسية وقلة قليلة من الموريتانيين تدور في فلكها. ويتضح هذا الربح جليا في السيطرة على الأسواق والعقول لأكثر من ستين عاما، من خلال نظام التعليم ولغة الإدارة وخدمات المشورة الفنية. لقد ظلت اللغة الفرنسية بالنسبة للموريتانيين لغة انغلاق طيلة عقود من الزمن، لم تسمح لهم خلالها، بالاستفادة من الأفكار والتجارب والخبرات التي تنتجها الثقافات واللغات الأخرى سواء كانت عربية أو إنجليزية أو إسبانية.
أما المستفيد الأول من التدريس باللغة العربية في جميع مراحل التعليم فهو أبناء الموريتانيين وآباؤهم وفئاتهم المختلفة، من خلال رفع مستوى تحصيل العلوم وزيادة معدلات النجاح وخلق فرص عمل لعدد كبير من الموريتانيين، وتقوية الوحدة الوطنية وفوق كل هذا وذاك توثيق العرى بالدين الإسلامي الحنيف.
لغة الإدارة هي الوجه الآخر للغة التدريس، وقد غابت عن الورشات التشاورية لسببين رئيسيين وهما كونها تعنى قطاعا آخر غير القطاع المنظم للتشاور وكون الدستور قد حسم أمرها نظريا في مادته السادسة. ومع ذلك، فمن الوجيه التساؤل عن جدوى التعليم بلغة لن نتمكن من استخدامها في ميدان العمل خاصة في الإدارة العمومية، تلك الإدارة التي يجد الموريتاني نفسه فيها غالبا غريب القلم واللسان.
لقد نجح إصلاح سنة 1979 في جعل اللغة العربية لغة للتدريس والعلم والفهم والاستيعاب، لكنه فشل تماما في جعلها وسيلة لكسب القوت اليومي والمنافسة في الوظائف العمومية والخصوصية، وهي مكانة ظلت اللغة الفرنسية تحتفظ بها حتى اليوم، بالرغم من أن موريتانيا لم تعد بلدا فرنسيا من بلدان ما وراء البحار، ولا تسكنها أية أقلية لغتها الأم اللغة الفرنسية.
إنه من غير المقبول أن تظل اللغة الفرنسية في المدرسة والإدارة تعطل مختلف آليات اتخاذ القرار الوطني، سواء كانت آليات فنية تستند لرأي ومشورة الخبراء، أو آليات ديموقراطية تُحَكِّمُ الأغلبية وتستند للدستور.
لقد قالت ورشات التشاور كلمتها فيما يتعلق بلغة التدريس، وقد قالت منظمة اليونسكو والبنك الدولي وعدد كبير من الدراسات الرصينة القول الفصل في هذا المجال من قبل. ولقد ظلت كافة مخرجات النظام التعليمي منذ سنة 1999 تصرخ في وجوهنا وتردد نفس القول. وما تجربة ماليزيا الفاشلة في تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية منا ببعيد.
إن على السلطة السياسية أن تقول قولها الفصل في هذا المجال وتقف إلى جانب الأغلبية، حتى لو تطلب الأمر التحقق من وجود هذه الأغلبية في استفتاء وطني عام وشفاف حول لغة التدريس، يشرف على تنظيمه مراقبون من اليونسكو والهيئات الدولية المعنية.
إننا لن نجد خبيرا أمينا يوصي باعتماد اللغة العربية لغة للتدريس في فرنسا، كما أننا لن نجد من الفرنسيين من يقبل تدريس العلوم في فرنسا باللغة العربية نزولا عند رغبة قلة قليلة من الفرنسيين من أصول عربية.