أزمة رؤى أم أزمة حكم؟! / التراد بن سيدي

إن الذي نعيشه في بلادنا من ضبابية التصور واختلاط في الأمور وارتباك في الخطا وتلكئ في المسار كله وليد محدودية الإدراك وضعف الرؤى للواقع والذي نتج عنهما العجز عن تحديد وتمييز المشكلات المختلفة الاجتماعية والثقافية والأقتصادية والأمنية وبالتالي عدم القدرة على التمكن من وضع تصور لما يجب فعله من تدابير وخطط تناسب التنوع الواسع لمشكلات الواقع التي يتطلب الكثير منها معالجة وتقويما يتحتم الإسراع باالقيام بهما دون تأخير خوف تفاقمها وتعقدهما وخوف اتساع الخرق على الرتق وتضاعف الحاجة لمزيد من الجهد للوصول لما هو مقصود. 

نعتقد أن مشاكلنا كلها متفرعة عن مشكلة رئيسية تتجسد في ضعف إدراك الواقع وتكوين تصور واضح يشكل رؤى تساعد في تكوين رأي عام وطني كامل الوعي لمطالب الناس وحاجات المجتمع في الوحدة والتنمية ويدرك ألف باء مرتكزات وأسس الوحدة الوطنية وشروط المحافظة عليها وتوطيدها وترسيخها وكيف تبدؤ الخطوات التنموية الواثقة الواضحة .

إن غالبية الناس يتحدثون عن الأنظمة الحاكمة ويحملونها كل الإخفاقات التي يتعرض لها البلد في المجالات المختلفة في مجال الوحدة ورسوخها وتمتينها وكيف يتم تقوية اللحمة ويكتمل التضامن وتتضافر الجهود وتتراص الصفوف نفسا بنفس وكتفا بكتف وفي مجال التنمية كيف يصلح التعليم والصحة و البنى التحتية الطرق والمطارات والموانئ وكيف يعالج التأخر في استصلاح الأراضي الزراعية وبناء السدود وغيرها من المنشآت المائية المتنوعة لحاجات الشرب والري والأستخدامات الأخرى وكيف نعتمد سياسة تحمي الثروة السمكية والثروة الحيوانية وكيف تصحيح سياسة التعدين واستغلال المناجم الكثيرة المكتشفة حتى الآن التي يستغل بعضها فعلا والتي لم تستغل..إلخ

إن تقصير الأنظمة واضح في كل شيء وفشلها في كل المجالات وفي كل القطاعات لكن سبب ذلك كله ضعف الرؤية ونقص الوعي العام للمجتمع قبل أن يكون من مسؤولية الحكومات والسلطات التي تبادلت الأدوار على الحكم منذ الاستقلال رغم التفاوت والاختلاف بين تلك الحكومات فيوأساليب ممارسة السلطة وفي مسائل داخلية كثيرة ومسأئل خارجية أيضا، ورغم الفساد وسوء التسيير لأكثرية الحكومات التي مرت على البلد فإن نقص وعي المجتمع هو الذي انعكس في أعمال الحكومات وقد حد من رؤيتها للمشكلات ومن القدرة على التفكير السليم والتصور المناسب لتدبير الأمور فلم يمكن للحكومات المختلفة إلا التأثر بالواقع العقلي والسلوك البدائ في المجتمع المنبثقة عنه لقد كان تخلف العقليات المترسخ في الواقع من القوة بحيث لم يستطع التوسع في التعليم وكسب العلوم المختلفة والأطلاع على الثقافات والأفكار العالمية إحداث الأثر الكافي لتغيير العقليات وتطوير الرؤى المناسبة لخلق سلوكيات وأفعال تخدم التغيير المفضي للتطور والتقدم والبناء ..

لقد كان التوسع في التعليم و تخرج مئات حاملي الشهادات العليا من الجامعات الفرنسية والكندية والروسية والسينغالية ومن القاهرة ودمشق وبغداد والجزائر والرباط وليبيا ومن كل انحاء العالم، وتخرج المئات من العلماء في العلوم الشرعية من السعوديية وغيرها كل ذلك كان يجب أن يكون كفيلا بالمساعدة على تغيير العقليات وتصحيح نظرة المجتمع للحال الذي هو عليه، لكن الذي حدث أن كل العلوم التي حصل عليها الموريتانيون من الشرق والغرب بمثابة أسفار يحملها حمار!! لقد استمر المثقفون يؤمنون أوويقبلون كلما توارثه المجتمع من عقليات بدائية فاستمر المتعلمون يعايشون العبودية دون رفض أو جهد يذكر محسوس لرفضها لكي يتناسب ذلك مع علمهم وتحصيلهم فلم نرى خريجي جامعة السوربون الفرنسية ينددون بالسلوكيات العبودية وبالتراتبية الفاسدة السائدة في المجتمع التقليدي فتعاملوا مع الصناع التقليديين بنفس العقلية التي تعامل بها المجتمع البدوي التقليدي فسموهم "امعلمين" واعتبروهم يحتلون مرتبة متدنية داخل المجتمع في الوقت الذي كان العلم الذي تعلموه والمنطق الذي درسوه يضع من يسمون "امعلمين" في مستوى آخر حيث لا يفضلهم أحد من المجتمع بأي معيار من معايير الأفضلية فهم الأكثر إنتاجية وسواهم كثير منهم متسولون ومتواضعون وغيرهم الكثير منه متكبرون وأذكياء بارعون و من شيمهم، الأثرة والكرم، وكذلك موقفهم من المغنين " إيغاون" وفئات أخرى" كآزناغ" يضعهم المجتمع في مرتبة تحت مرتبة فئات العرب والزوايا فقد كان مثقفونا الذين يتغنون بأمجاد ثورة فرنسا ١٧٨٩-١٧٩٩ ومبادئها في الحرية والمساواة واستوعبوا مؤلفات منتسكيو وفيكتور هيكو وفولتير ويتشدقون بفلسفة نتشيه وكانت وهيكل وكارل ماركس وبوجودية جان بول سارتر وبير كامو ومدام ديبولفار وكتاب النهضة العربية جورجي زيدان والمنفلوطي وطه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ وقد انتمى الكثيرون منهم لمبادئ الماركسية الليننية والإيدلوجيا البعث العربي الاشتراكي وأفكار الناصرية وظلوا بعد كل ماجمعوا من المعارف والثقافات و الأنتماء لكل الإيدلوجيات والأفكار السياسية ظلوا عبوديون يمارسون مايمارس المجتمع القبلي البدائي قبليين حتى النخاع يعايشون استرقاق الإنسان وامتهانه ويقبلون احتقار "المعلمين" "وإيغاون "وآزناغ "وكأن ماتعلموا لا يعني لهم شيئا لم يطرأ على فكرهم أي تغيير والذين تخرجوا من المدارس السوفياتية التي كانت ماركسية لا أثر لماتعلموا على تصرفاتهم ومثلهم من تعلموا في انحاء العالم لم يكن لتعليمهم أثر يذكر في سلوكهم ، وكذلك الذين تعلموا علوما دينية لم يؤثر تعليمهم على سلوكهم لقد ظل ما يسود المجتمع من عقليات متخلفة وسلوكيات غريبة يستوي في اتباعه العالم والجاهل والأستاذ والأمي الجميع لايولون إنهاء الرق اهمية وجعل المساواة تسود المجتمع ويوافقون جميعهم على استمرار المجتمع مفككا وغير متجانس لاتسوده وحدة حقيقية بعضه نبلاء شرفاء وعرب وزوايا ، وبعضه "اشباه عبيد" "وامعلمين" وإغاون" وآزناغ" وكل ذلك بموافقة المتعلمين من مختلف المستويات العلمية يرون جزئا من الشعب يترفع على العمل ويحتقر بعض الأعمال معتبرا أنها لاتناسبه ويقبلون ذلك ويسكتون عليه كأنه لاضرر فيه إنهم يرون المجتمع ينحدر شيئا فشيئا نحو الصراع والانفجار دون أن يكون لهم اهتمام كما لو أنهم لايعلمون شيئا ولايستطيعون فعل شيء!! 

وليت المتعلمين مثقفين وغيرهم توقف سوء عملهم على عدم القدرة على التطور وتغيير عقلياتهم وعقليات المجتمع وإنما كان لهم دور بارز في زرع الفساد وسوء التسيير في المجتمع لقد زرع المثقفون في المجتمع عادة اختلاس المال العام ونهب كلما يقع تحت أيديهم حتى أصبحت النزاهة وعدم سرقة المال العام هي الخطأ الذي يجب عدم ارتكابه أما الصواب فهو الاستلاء على ما أمكن الاستلاء عليه من المال العام، وأصبحنا نتحول شيئا فشيئا إلى مجتمع من اللصوص فكل سارق جمع أموالا وراكمها أصبح سيد قومه بلا منازع يحيي ويميت ويملك القدرة على الترشح والنجاح في كلما يترشح له فهو النائب إذا أراد وهو الجهوي والمشتشار البلدي والعمدة إذا شاء ولديه القدرة للترشح وترشيح من شاء للرئاسة لقد أصبح سادتنا سراقنا ولا من يعترض!!

إن مشكلة المتعلمين مثقفين وغيرهم ليس في عدم استفادتهم بعلمهم ومعلوماتهم للتطور وتطوير المجتمع وإنما لأنهم صاروا أداة تدمير للمجتمع بتماهيهم مع العقليات الضارة المهددة للمجتمع في وحدته وانسجامه وتراص صفوفه من جهة وفي ترسيخ سلوكيات التبذير وتبديد الثروات والحيلولة دون التطور و التقدم في البناء وتنمية الوسائل بسبب الفساد المترسخ الضارب بأطنابه داخل كل مفاصل الدولة وزوايا المجتمع وكل الهيآت الأجتماعية والسياسية مشكلا سدا منيعا يمنع أي تقدم أو تطور!! 

إن المجتمع الآن تسوده حالة من عدم إدراك الواقع ومتطلبات علاج الاختلالات في البنى الاجتماعية وفي السلوك والممارسة، فعندما ترى السلطات لاترى ضرورة تغيير الواقع وليس لديها عملا استعجاليا لعلاج حالة الوحدة وإشكالات التناقض داخل المجتمع ،وترى مختلف القوى السياسية بما فيها الأحزاب الكبيرة ذات الطموح الكبير لاتضع برامج واضحة لحل المشكلات التي تهدد الوطن وتراها تتكلم حول كل شيء دون تحديد الأمور الأهم فستدرك أن سبب كل ذلك عدم تكامل الرؤية الواضحة للواقع من طرف الجميع، وعندما ترى مثقفين وكتاب ومفكرين يتحدثون عن كل شيء ولا يضعون أصابعهم على مكامن الوجع في جسم المجتمع ومكامن الخطر الذي يهدده أي حالة الوحدة، وتفشي الفساد ودمار البيئة، تدرك حجم أزمتنا الرُؤيَوِيَة فهذه الأطراف السلطة والأحزاب السياسية معارضة وغير معارضة ومثقفين وكتاب لايعبرون بوضوح أفكار عن المشاكل الأخطر والأكثر تعقيدا مما يؤشر إلى أن هناك خللا عظيما في الوعي وأن المشاكل التي نعاني ليست في الحكم القائم أو الذي سبقه أو الذي سبق الذي سبقه إنما المشاكل التي نعاني في وعينا جميعا كمجتمع وفي رؤانا وعقلياتنا التي تسببت في سلوكياتنا وسياساتنا غير الموفقة ولن نستطيع عمل شيء له قيمة مالم نتمكن من إدراك الواقع الذي تتهددنا فيه مخاطر تتصاعد وتتضخم بوتيرة متسارعة وحتى الآن لايبدو أننا قد بدأنا نقترب من إدراكها حتى نطمع ببدئ علاجها!!!

 

23. نوفمبر 2021 - 12:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا