"ماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له".
"هل يعالج جسد الأمة المريض بالأدعية والحجابات والصراعات ولكن الجراح تطهر بالكحول، وكي المناطق المصابة بالنار إذا لزم الأمر". من رسالة نزار قباني إلى الرئيس جمال عبد الناصر
لا بد أن يكون "فعل" قيام سياسة ثقافية، ناضجة وسوية حمالة وبناءة واجها تثمين الماضي وابتكار الحاضر بالإبداع والإلهام، هاجسا دائما وإرادة جلى لدى الجهات المعنية لضرورة ذلك القصوى من أجل:
ـ رد الاعتبار للخصوصية الثقافة التاريخية الممزقة في المحسوس والمادي من إرث الأجداد،
ـ ووضع المثقفين "المُقلمِي الأظافر" بفعل عوامل قاهرة وأخرى متعمدة وأخرى إرادية بسبب الضعف والاستكانة والانصراف عن العمل الفكري والثقافي، إلى الاهتمامات والأنشطة الربحية في دائرة الاستقالة البينة عن الاهتمام برسم رفع الشأن "الثقافي" و"المعرفي" و"الفكري" و"الإبداعي" من جراء الضَعْف والاستسلام لغرائز الدونية.
في كل يوم تشرق شمسه يُطعن "الأدب" في بلاد التناقضات الكبرى ألف طعنة وطعنة، ويمرغ لسانه الوضاء في أوحال النفاق وتقطعه سكاكين الطمع وتمزقه بالغرز أنصال "النكوص" بعهود الالتزام للأمة بإخراجها من شرنقة الماضي، والتوضؤ بماء "المدنية" المنقى من أدران "السيباتية" الرابضة في النفوس والحية في التفكير والسلوك، ومن بعدما اضمحلت "القيم" وتلاشت مولية عن مستنقع الذاكرة "المخدوشة".
إنها زفرة الأدب المكلوم، في بلاد المليونيات، تسافر على "متن" المهرجانات الدعائية الواهية والتجمعات الكرنفالية الواهمة لتنزل بكل ساحات الارتجالية وتلقي مراسيها في كل مرافئ ضعف الإبداع وضمور المخرج حيث يسقط "الشاعر" ـ المتمسك بناصية الالتزام ـ تحت حوافر الفكر الغوغائي كلما تفوه بالحقيقة بكبرياء الفرسان وفي استثنائية:
- الحضور الناصع، و
- شجاعة الأحرف الصقيلة، و
ـ قوة الصرخة التي بحجم الطعنات وشدة اندفاع تدفق النزيف الذي يغطي مساحة الجرح الغائر؛ صرخة لا تخشى العواقب المترتبة رغم عمق الجرح وقوة النزيف،
إن نظرنا للحضارات السابقة سنجد الأدب يضرب عميقًا في أساسها، إذ لا توجد حضارة واحدة؛ المصرية القديمة الرومانية، اليونانية، الآشورية، المايا، الأنكا والأزتيك ، الصينية، الهندية ..الخ لم تبنَ على القصص والأساطير والملاحم الشعرية وهي كلها الجد البعيد للأعمال الأدبية بشكلها الحالي.
فهذه الأساطير عند تحليلها وقراءتها بعناية سنجد أنها تؤسس للقيم التي هي أساس بناء المجتمعات، بل كان بعضها قبل الرسالات السماوية محاولات البشر في تيهه للبحث عن الله والدين والاهتداء، بل الكثير من الأفكار العلمية بدأت كقصة في أسطورة أدبية قرر عالم أن يخضعها للتجربة والتحقّق،مما أوحى بأنه من الأدب نشأت المعرفة البشريّة التي بنيت عليها الثقافة الإنسانية مستقبلًا ليتأصل هنا دور الأدب في تعميق الثقافة .
ولما أن "الشناقطة"، كما عرفهم غيرهم من المشارقة وجيرانهم من المغاربة، كانوا قد أخذوا مبكرا بناصية "الأدب" بناء وشحنا مع وصول الهجرات العربية الأولى ووفود الكتب والكاغد على ظهور عيس القوافل التجارية الأولى إلى "شنقيط" و"ولاته" و"تيشيت" و"وا-دان" ومن قبل إلى "كمبي صالح" (المنسية) على بعد 60 كلم من "تمبدغه" وهي العاصمة السياسية لسلطنة "غانا"، و"آوداغست" و"آزوكي" إلى غاية "سجل ماسا" بالمغرب الأقصى. وقد استطاع "الشناقطة" بهذا الأدب:
ـ بناء إنسان سوي فكريا و متميز بعطاء رفيع يسهم في الحركة الادبية العربية والعالمية،
ـ وتسجيل "أيامهم" بتفاصيلها،
ـ وذكر ونشر قيمهم و"آدابهم"،
ـ وتسهيل حفظ المتون بتلخيصها ضمن "أنظام" مختصرة في تكثيف بديع وسائغة للحفظ في غياب المدارس وأدواتها.
وهو الأمر الذي مكن من انتشار "المحاظر" فيما بعد وتطوير المواهب الشعرية حتى بلغ الشعراء شأوا أبهروا بشعرهم الرصين "المشارقة" لما كان "الشناقطة" يفدون إلى أمصارهم في رحلات الحجيج قاصدين "الديار المقدسة".
أما اليوم وقد دخلت البلاد عصر الحداثة والتصقت بنسيج "الأمة" الملتئم في لغته وأدبه بفضل الوسائل التي أتاحها ومكن منها التطور الهائل، وأصبحت وحدة الأدب قائمة على المناهج الحديثة ليكون لزاما على لأدب "الشنقيطي" أن:
ـ يأخذ بأسباب "النقد" نهجا وعملا،
ـ ويصقل المواهب من التبعية العمياء في الأسلوب والأغراض من جلباب الماضي الذي ولى زمانه،
ـ ويلتحم بالعصر فيلتزم بمضامينه ويخضع لميزان النقد الغائب أو المُغيب،
حتى يلعب دوره "الريادي" في بناء الحاضر بلغة العصر وبالاضطلاع وإتباع مسارات الثقافة في كل تجلياتها حتى "إسقاط الخط الفاصل بين الشجاعة على الالتحام بالعصر وبين الابتذال المبقي في قيعان الرجعية الأدبية وانكسار ظل الأدب وتيه روحه"؛ خط فاصل بين الشجاعة على التصحيح والطلاق مع الانتحال في موريتانيا، التي يريد أهلها أن يظلوا متدثرين بحلة مجد "شنقيط" القشيبة كما تدثرت بها البلاد طويلا.