كنت في مقال سابق عن العلامة الولاتي، قد أشدت بتراثه الضخم في مجال الأسئلة والأجوبة والفتوى، ويأتي هذا المقال في نفس الميدان، إلا أنه يتعلق بما أسميه العلاقات الثقافية بين مدائن التراث التي كانت شبه المدينة الواحدة في هذا اللون من ألوان الثقافة، فلطلما أفتى علماء شنقيط لأهل تيشيت، كما أفتى علماء ولاتة لأهل شنقيط، لا بل سكنها أحدهم وأم المصلين فيها، ونقصد بالذكر محمد المختار بن محمد يحيى الولاتي، موضوع المقالة الحالية، وقد وقفت على هذه الفتوى في مكتبة القاضي، والأديب، والشاعر، محمد عبد الله بن فال التي تنضم في هذه الآونة لمكتبة الأسرة، مكتبة أهل أحمد محمود بمدينة شنقيط.
والفتوى المقصودة تتحدث عن الحبس المعقب، وهي قديمة نسبيا، وتؤرخ لفترة من ازدهار الثقافة في مدينة ولاتة، حيث كان الجميع يطلب الفتوى من علمائها وعلى رأسهم العلامة محمد يحيى الولاتي، وهذا الأنموذج يقدم دليلا قاطعا على زعمنا، وهو ينقسم إلى فقرتين أساسيتين، فقرة السؤال وفقرة الجواب ممهورة في الختام بخطه، فالفقرة الأولى تقول:
الحمد لمن أمر بسؤال أهل العلم عما يعلمون، وأمرهم بالجواب لأهل الجهل عما يسألونه، محمد يحيى أحيا الله بك الدين، وشيد بك سنة سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله أجمعين.
أفتنا في حبس لم يتعرض كاتب عقده لدخول غائب ولا لخروجه، وإنما كتب كونه معقبا على بني فلان، ولم يزالوا يستغلونه وهم حاضرون إلى أن غاب بعضهم وسكن في تكانت واركيب، والحبس بوادان، وله أملاك معه لم يبعها ولم يزل القائم على الحبس يعطي للغائب حظه منه حتى أن بعض الغائبين من أهل الحبس قام على ورثة عمه بعد وفاة العم أنه أكل غلة حبسه فاستحق الغلة وأخذ حديقة له ولأخوته ثم إن بعض المفتين أفتى أو حكم بكون من غاب عن القصر وسكن لا حق له في الحبس، قيل لي إنه معتمد على ما فهم من نص خليل في الوقف، فالآن لا بد من إفتائكم ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة. واعلم أن دخول الغائب غير الذي لا يعرف له شيء يفعله القائمون على الأحباس.. فانظر في السؤال واختصره إن كان محتاجا لذلك، والسلام.
والفقرة الثانية تبدأ بقول العلامة:
والجواب والله الموفق للصواب، هو أن الحبس المعقب على غير معينين إذا غاب بعضهم عن بلد الحبس غيبة انقطاع، وكان الحبس دارا وسكنها غيره، فإن حق الغائب ينقطع من السكنى، فليس له أن يحاسب الحاضر بما ينوبه من السكنى، ويأخذ منه عوضا في ذلك وليس له إخراجه إذا قدم بلد الحبس، وهذا هو معنى قول خليل: وَلَمْ يُخْرَجْ سَاكِنٌ لِغَيْرِه إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ سَفَرِ انْقِطَاعٍ أَوْ بَعِيدٍ.
وأما إن كان الحبس شجرا تأخذ منه غلته أي: ثمرته وتُفَرق على المحبس عليهم، فإن حق الغائب لا ينقطع منها ولو سافر سفر نقلة كما صرح بذلك الأجهوري عند قول المصنف المذكور ونصه، وقال بعض أشياخي الظاهر أن الغلة في هذا الحكم كالسكنى، أي: في سقوط حق الغائب منها. قال الأجهوري قلت وفيه نظر، فقد نص ابن رشد على أنه لا يسقط حق من مسافر سفر انقطاع أو بعيد من الغلة.
قلت فتبين بهذا أن الغائب من المحبس عليهم في مسألة السؤال لا يسقط حقه من غلة النخل الحبس الذي بوادان، لأن الغلة ليست كالسكنى، وما ما فهمه هذا المفتي الذي ذكر السائل من نص خليل فخطأ، لأن نص خليل لا يدل على ما فهمه، بل يدل على عكسه، لأن قوله: فَضَّلَ الْمُتَوَلِّي أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْعِيَالِ فِي غَلَّةٍ وَسُكْنَى، ثم قال: وَلَمْ يُخْرَجْ سَاكِنٌ لِغَيْرِه إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ سَفَرِ انْقِطَاعٍ أَوْ بَعِيدٍ. فهذا يدل على أن هذا الحكم مختص بالسكنى لتخصيصه لها بالذكر دون الغلة.
والنهاية خاتمة طالما ميزت فتاوى العلامة الولاتي، وبخطه الواضح الجميل:
وكتبه مفتيا به عبيد ربه محمد يحيى بن محمد المختار، رزقه الله ووالديه والمسلمين شفاعة النبي المختار، آمين.
والمقصد من هذا كله أن نضع بين يدي القارئ ما تضج به مكتبات التراث في مدائن التراث، من آثار العلماء مما لم يقف عليه القارئ فيما أخرجه المشتغلون حتى هذه اللحظات، وما نعده نحن حسب علمنا جديدا لم نسبق إليه، عسى أن يكون ذلك مشاركة منا في إعلاء شأن ثقافة هذه المدن بخاصة وثقافة البلد بعامة.