متى يخرج الفقيه من القوقعة ؟ / محمد الامين ولد آقه 

لا تكاد تنقضي نبذة من الايام ، حتى يدهم الناس أمر عام ؛ تتجاذبه الافكار ؛ وتتفاوت فيه الافهام !

ويتحدث فيه السياسي ؛ والاعلامي ، والمفكر ؛ والكاتب ؛ ولا يهمله الناشط في موقع التواصل الاجتماعي ..

ولا الرويبضة الذي يحاول تصدر المشهد في كل صغيرة وكبيرة !

لكن الفقيه اليوم هو آخر من يدلي بدلوه في القضايا العامة !!

من الاخطاء التي نتج عنها وقوع البلبلة في واقعنا اليوم : غياب الفقهاء عن ساحة الاحداث العامة التي تهم الراي العام وانعزالهم داخل المحظرة او المدرسة بعيدا عن واقع الناس !!

بعض الفقهاء يظن ان مهمته محصورة في تدريس متن فقهي ؛او شرح كتاب وتوصيله الى الناس بالطريقة نفسها التي وصله بها، وهذا تصور خاطئ!!

فمهمة الفقيه ليست محصورة في التدريس فقط..

مهمة الفقيه ان يترجم معلوماته الفقهية على ارض الواقع ؛ وان يعالج واقع الناس من خلالها ..

ان احوال الناس لا تستقيم الا بشرع الله ؛ ومطلوب من الفقيه ان يقرب الفقه من الواقع ؛ وان ينطلق بالواقع من الفقه ..

ومن الخطا الفادح ان يتقوقع الفقيه وان يسعى الى الانعزال في مدرسته كما ينعزل الصوفي في زاويته!!

قد تكون العزلة مناسبة للتصوف ؛ لكنها غير مناسبة للفقه الذي لم يوجد الا لمعالجة واقع الناس .

 وليس من مقتضيات الفقه ان تحدث نازلة تشغل الناس وتهم العامة والخاصة ؛ والفقيه منشغل عنها بتقليب الكتب والاوراق !!

لقد نزل القرآن منجما ، وفي زمن نزوله كانت الآية تنزل لمعالجة ما يجد من الاحداث؛ ويظهر ذلك جليا لمن نظر في مصنفات اسباب النزول.

واستقراء التاريخ يدلك على ان فترة قوة الامة الاسلاميةوحيويتها ؛ هي الفترة التي كان فيها الفقهاء يهتمون بالشان العام ويمزجون بين الواقع والفقه ، فيكون لعلمهم اثر مبارك على حياة الناس ..

 وقد ورد في سير اعلام النبلاء انه : 

لما اراد ابو المطرف المرواني استكمال بناء جامع قرطبة 

وكانت إشبيلية من ناحية الوادي بلا سور .

كتب إليه عبد الملك بن حبيب الفقيه يحرضه على بناء سور إشبيلية ، وقال له : "حقن دماء المسلمين - أيدك الله وأعلى يدك بابتناء السور - أحق وأولى" . فأخذ برأيه ، وجمع بينه وبين زيادة جامع قرطبة ، وانقذ الله بفتواه المسلمين من شر عظيم . 

وكذلك قام يوسف بن تاشفين بخلع ملوك الطوائف وإزاحتهم 

استجابة لفتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس الذين دعوا الى ذلك، وكان “أبو حامد الغزالي” و”أبو بكر الطرطوشي” على رأس الداعين لهذا الامر .

 اما حين ينعزل الفقيه في محرابه الفقهي ويرى ميدانه محصورا فيما بين الحبر والدواة ، فسوف ترى شروحا على الشروح!

وحواشي على الحواشي !

واختصارا للمطولات !

ونظما للمختصرات !

ولكن في المقابل سوف ترى هوة شاسعة بين الفقه وواقع الناس ! 

 حتى على مستوى الصور الفقهية سوف ترى هروبا من الواقع الى الصور الافتراضية ، ورياضة ذهنية غير مصحوبة برياضة عضلية !!

***

قد يبادر معتذر بالقول : ان انزواء الفقيه ليس أمرا نابعا من اختياره؛ بل هو نتيجة لواقع التهميش للفقه والشرع عموما ،واهتمام الناس على المستوى الخاص والعام بجوانب اخرى ذات طابع نفعي او مادي اكثر من اهتمامها بالجانب الشرعي !

وهو اعتذار يكتسي ثوب الوجاهة للوهلة الاولى ؛ ويتجرد منها اذا تذكرت ان مقاومة هذا التهميش من خلال الحضور هي ردة الفعل المطلوبة من الفقيه ؛ وليس مطاوعته  بالانزواء والانطواء !

ومقولة "العلم يُؤتي ولا يَأتي" ؛ صحيحة في مجال التدريس ؛ لا في مجال اسقاط الفقه على واقع الحياة.

***

ومن التفريط الى الافراط...  فإن بعض الفقهاء يسعى الى الحضور الدائم والمشاركة في كل ما يشغل الرأي العام..

ويحمله ذلك على مسايرة المنهج "الفيسبوكي"  وتناول كل ما يطرح في الساحة من غث وسمين ؛ وجيد ورديء  !!

وفي الساحة أمور لا جدوى من تناولها ؛ والسكوت عنها خير من الخوض فيها .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسال عن الامر فيرشد السائل الى ما هو انفع له.

قال له سائل : "متى الساعة ؟ " ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "ماذا أعددت لها ؟ " . 

والله الهادي الى سواء السبيل .

 

 

10. ديسمبر 2021 - 9:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا