مئة سنة من تداول الأوراق النقدية في موريتانيا (1920-2019).. قراءة اقتصادية لمؤشر التضخم / المشري محمد المختار الرباني

أولا: توطئة قديما كانت المبادلات التجارية بين الأفراد والتجمعات السكانية تتم بتبادل السلع عن طريق أعمال المقايضة حيث كانت السلعة هي الثمن، إلى أن استبدل هذا النظام بالسداد بأنواع مختلفة من النقود السلعية كعملات للدفع، وخاصة الملح..  والذهب والفضة، وذلك بأساليب وأحجام ورسومات مختلفة حسب اختلاف الأماكن والمراحل التاريخية. لكنه وبسبب المشاكل المتعلقة بتكلفة نقل وتخزين النقود السلعية وخاصة بين القرى تم ابتكار النقود الورقية كنقود تعهدية؛ لتكون بمثابة وعد من الجهة المصدرة بتحويلها إلى نقود سلعية متى ما أراد صاحبها ذلك.

وفي التاريخ الحديث تطورت النقود الورقية حيث أصبحت تستمد قوتها من ضمان الحكومات ممثلة في البنوك المركزية لتكون نقودا قانونية، تارة خاضعة لقانون العرض والطلب، وتارة أخرى بربطها بالذهب والفضة، وقد تطور الإنتاج السلعي بظهور التخصص وتقسيم العمل، والإنتاج من أجل السوق مع الثورة الصناعية، واختلف آراء الاقتصاديين حول ظاهرة النقود كمعطى جديد فرض نفسه مع ظهور المدرسة الكينزية وما بعدها من تاريخنا المعاصر، لتنصهر النقود في بوتقة الظواهر التي ستتم دراستها علميا واقتصاديا بشكل متشعب مع ازدهار التبادلات التجارية وتنوعها مع ظهور الدولة القومية (الوطنية) وما تبع ذلك من تطور للعلوم التطبيقية.

من هنا فإن العملات عدا عن كونها تعكس ثقافة الشعوب وطبيعة عيشهم فإنها تعتبر مصدرا تاريخيا يوثق لحضارة الشعوب ينبغي أن يتم التعرض له بالبحث والتمحيص، من أجل استخلاص الدروس والعبر، وفي بلاد شنقيط ظهرت الأوراق النقدية (النقود القانونية) لأول مرة سنة 1920، فماهي المراحل التي مرت بها على مدى قرن من الزمن، عرفت خلاله هذه البلاد فترات متباينة ومتنوعة؛ بداية من كونها منكبا برزخيا، مرورا بالفترة الاستعمارية وتأسيس الإقليم الموريتاني، ومرحلة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، وإصدار العملة الوطنية..

سنتعرض لما مرت به الأوراق النقدية من تنوع، وما حدث لها من استقرار وصعود وهبوط، والأسباب والنتائج، على مدى القرن المنصرم، أولا: لمعرفة مكامن القوة ومواطن الخلل، فكما يقول نيلز بور "إن الخبير هو من ارتكب كل الأخطاء التي يمكن ارتكابها في مجال محدود!" وتاليا: لمعرفة ما آلت إليه الأمور خلال السنتين المنصرمتين 2020 و 2021، بعد مرورنا بتجربة المئة سنة، ومحاولة معرفة هل موريتانيا تسير في الاتجاه الصحيح أم لا؟ ثم نختم ببعض التوصيات والمقترحات من واقع تجربة قرابة نصف قرن من تداول الأوقية كعملة وطنية.

وسنحاول أن نتعرض للمفاهيم الاقتصادية بأقصى قدر من التبسيط، في موضوع يتم التطرق له لأول مرة، ونجمع شتات ما يتعلق به في قالبه الصحيح، حتى يتمكن القارئ الكريم من خارج الاختصاص من التمكن من الاستفادة القصوى منه، وفهم ما يتداول في الإعلام والسياسة حول العملة الوطنية. 

 

ثانيا: مقدمة

إن النقود هي المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي والآلية التي تتم بها المبادلات وتسوى بها المقبوضات، وقد تطورت النقود من كونها نقودا إلزامية إلى النقود الائتمانية (المصرفية، السندات، الأسهم..)، وإلى نقود إلكترونية.. وتشعبت سوق تبادل العملات الأجنبية (الفوركس) مما جعلها عرضة للتقلبات، وقد أصبح ارتفاع الأسعار المرتبط بقيمة العملة المحلية المعروف بالتضخم  من أكثر المصطلحات الاقتصادية تداولا على جميع الأصعدة.

لقد خضعت منذ الأزل لقانون العرض والطلب، فمثلا معدن الحديد ثمنه رخيص نتيجة كثرة المعروض منه مقابل الطلب عليه، ومعدن الذهب غالي الثمن نتيجة كثرة الطلب عليه مقابل المعروض منه. كما أن البشرية على مر التاريخ مرت بفترات من الرواج وأخرى من الكساد لأسباب متعددة ومتنوعة، منها القحط والنزاعات والثورات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.. كما استعملت النقود في المعاملات من قديم الزمان كبديل عن المقايضة؛ بدليل ذكر العملة الفضية (الورق بكسر الراء) في قصة أصحاب الكهف.

مرت مصر الفرعونية بفترة القحط المذكورة في سورة يوسف، وتسببت الحروب في الامبراطورية الرومانية قبل الميلاد بالمجاعة.. ويزخر تراثنا العلمي الإسلامي بدراسات في الاقتصاد الاسلامي تحدثت عن أسس النظام المالي للدولة؛ مثل كتاب الخراج لأبي يوسف ت: 738م، والخراج أيضا ليحي بن آدم ت: 828 م، وتعرض ابن خلدون ت: 1406، في "فصل وجوه المعاش" من كتابه المقدمة لبعض المفاهيم الاقتصادية المرتبطة بهذا الموضوع، وتحدث المقريزي ت: 1445 م، عن التضخم تحت اسم الغمة في كتابه "إغاثة الأمة في كشف الغمة" وغيرها من الإسهامات في الاقتصاد الإسلامي التي بلغت حسب إحدى الدراسات 350 كتابا تعود إلى 282 مؤلفا من علماء المسلمين.

وهكذا فإنه مع تداول الأوراق النقدية (النقود القانونية، النقود الإلزامية، البنكنوت) في سوق السلع والخدمات فإنها خضعت منذ البداية لقانون العرض والطلب، فكلما زاد المعروض من النقود مقابل الطلب عليها انخفضت قيمتها المعبر عنها بارتفاع أسعار السلع والخدمات، وكلما زاد الطلب على النقود مقابل المعروض منها ارتفعت قيمتها، وهو ما يعني انخفاض أسعار السلع والخدمات، كما أنها تأثرت بالحروب والنزاعات.. ومن هنا عرفت ظاهرة التضخم النقدي والذي يقابله من ناحية أخرى الكساد.

إن التضخم الاقتصادي -وكذلك الكساد- كظاهرة ليست أمرا حديثا كما مر معنا، بل إن جذوره التاريخية قديمة، غير أن تصاعد الاهتمام به بدأ يتجلى بشكل ملحوظ على صعيد الفكر الاقتصادي، وكذلك على ساحة الدراسات التطبيقية إبان الحرب العالمية الأولى، ومع اتساع سوق المبادلات التجارية، وظهور النظم الاقتصادية الحديثة انتقل مفهوم التضخم من كونه عبارة عن التضخم النقدي إلى تعريف جديد هو التضخم السعري؛ والذي يعني زيادة شاملة في أسعار السلع والخدمات مقاسة بوحدات النقد، وهو مرادف لانخفاض القدرة الشرائية للنقود.

1-   تعريف التضخم

التضخم في الاصطلاح الاقتصادي هو الارتفاع المستمر لأسعار السلع والخدمات على مدى فترة معينة، وما يرافق ذلك من انخفاض للقدرة الشرائية للعملة المحلية، وتدني قيمتها مقابل العملات الصعبة والمعادن الثمينة. وهو ما يؤدي إلى انخفاض الدخل الحقيقي، وزيادة تكاليف الإقراض، وانخفاض الرغبة في الادخار، وانخفاض الاستثمارات، وزيادة عدم المساواة في الدخل، وتوقيف الأعمال التجارية جراء عدم اليقين في المستقبل.

كما يؤدي التضخم إلى الإخلال بالعلاقات التعاقدية نظرا لانخفاض القيمة الحقيقية للديون داخل الدولة لارتفاع الأسعار، وارتفاع قيمة الدين الخارجي المدفوع بالعملة الصعبة نظرا لتدهور قيمة العملة المحلية.

2-   أسباب التضخم

ينتج التضخم عن ارتفاع الطلب مقابل انخفاض الإنتاج، أو زيادة تكلفة عوامل الانتاج، أو بسبب الفساد الإداري والمالي، أو نتيجة ارتفاع أسعار المنتجات العالمية، أو بسبب الكوارث الطبيعية التي تقلل من الإنتاج المعروض، أو نتيجة الأزمات السياسية، والصراعات الإقليمية والدولية، وأيضا نتيجة العبء الكبير للدين الخارجي وفوائده إذا لم يخلق نموا اقتصاديا يمكن من سداده مع فوائده في الآجال المحددة.

3-   أنواع التضخم

يعتبر الاقتصاديون أن ارتفاع الأسعار بنسبة تقل عن 10% سنويا ضرورية من أجل دفع عجلة النمو، وخاصة عندما يكون الاقتصاد دون مستوى التشغيل الكامل، ويطلقون عليه التضخم الزاحف. أما إذا كان ارتفاع الأسعار لا يشمل جميع السلع، أو كان ارتفاعا مؤقتا، فإن المسؤولية هنا تقع على عاتق برامج الحماية الاجتماعية في امتصاص ارتفاع الأسعار؛ ويسمى هذا النوع من التضخم بالتضخم المكبوت. وهناك التضخم المستورد نتيجة تأثير العوامل الخارجية؛ فكلما زادت قيمة الواردات مقابل حجم الناتج المحلي الإجمالي كلما ازدادت حساسية الاقتصاد لاستيراد التضخم، وتزداد خطورة التضخم المستورد في حالة الاعتماد الغذائي على الخارج..

أما إذا ارتفعت الأسعار بنسبة تفوق 50% لفترة طويلة فإن هذا النوع يطلق عليه التضخم الجامح وقد يؤدي إلى انهيار الاقتصاد بشكل كامل، كما حدث في ألمانيا سنة 1929 نتيجة طباعة النقود لقضاء ديون الحرب، رغم تحذيرات المصرفيين، والعراق 1990 بسبب الحصار، وزمبابوي سنة 2008 نتيجة الإصلاح العقاري، وفنزويلا ولبنان مؤخرا..

ويستعمل الاقتصاديون الأرقام القياسية للأسعار لقياس نسبة التضخم، كما يعتبر سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية من أهم المؤشرات الاقتصادية والمالية التي تتأثر بشكل كبير بالتغيرات الاقتصادية التي من أهمها التضخم.

4-   معالجة التضخم

كما رأينا فإن العملة الوطنية تستمد قيمتها من خلال مكانة الدولة وحجمها وحجم اقتصادها بين الدول الأخرى. وحجم الاقتصاد هنا يقصد به حجم الناتج المحلي؛ وهو قيمة السلع والخدمات المنتجة محليا للدولة. ويرى العديد من الاقتصاديين أن التضخم في الدول النامية يعود إلى الاختلالات الهيكلية المتراكمة، وآثار الفساد المدمرة على الجانب الاقتصادي لأنه يضعف النمو الاقتصادي ويوجه الدين الخارجي إلى غير موارده الأساسية، ويشوه الإنفاق الحكومي، ويؤدي إلى التوزيع الغير عادل للثروة، مع العلم أن التضخم ظاهرة معقدة ومركبة ومتعددة الأبعاد، فهو نتيجة عوامل متعددة قد تكون متعارضة في ما بينها.

وهذا ما جعل طباعة النقود من طرف البنك المركزي عملية فنية معقدة اقتصاديا، إذ أن كل وحدة نقدية مطبوعة لابد أن يقابلها رصيد من النقد الأجنبي، أو رصيد من الذهب لدى الدولة  أو سلع وخدمات حقيقية تم إنتاجها في المجتمع، أومن أجل استبدال الأوراق القديمة المتهالكة الجاري تداولها، أو إذا كان هناك نموا اقتصاديا أو سكانيا (ولو صوريا كما سنرى بالنسبة لدمج المرأة الموريتانية في الدورة الاقتصادية).

إن معالجة التضخم بشكل عام تتم عن طريق السياسة المالية وهي جملة من الإجراءات من بينها تقليص الإنفاق الحكومي، أو عن طريق السياسات النقدية التي يتولاها البنك المركزي باعتماد مجموعة من الأدوات الكمية والنوعية عن طريق معدلات الفائدة واحتياطي البنوك الوسيطة. لكن في حالة موريتانيا لابد من التركيز على زيادة الإنتاج وخاصة الانتاج الزراعي، وخلق الثروة، وتعزيز احتياطي العملات الصعبة، ومخزون الذهب، ومكافحة الفساد، وتوظيف أصحاب الخبرة والكفاءة، وتعزيز العلاقات الدولية والإقليمية، ومراعات التغيرات المناخية..

 

ثالثا: تجربة المئة سنة من تداول الأوراق النقدية في موريتانيا 1920 - 2019

ازدهرت مملكة غانا الوثنية على هذه الربوع في تاريخها القديم، حيث تأسست على تبادل الذهب مع قوافل بدو الصحراء، وقد ازدهرت تجارة القوافل خلال القرون الوسطى مع الفتوحات الإسلامية والهجرات العربية والبربرية إلى بلاد السودان الغربي (المناطق المحاذية لنهري السنيغال والنيجر)، وعلى وجه الخصوص مع قيام دولة المرابطين، التي سكت الدينار المرابطي الذي تم التعامل به في مشارق الأرض ومغاربها؛ نظرا لسيطرتها على مناجم الذهب، ولجودة الدينار المرابطي الذهبي الذي بلغت درجة نقائه 94%.

وقد كانت المعاملات التجارية في بلاد شنقيط في الفترة التي سبقت عهد الاستعمار تتم عن طريق المقايضة بين الحبوب والثمار والزراعة والماشية، وقد شاع استعمال الصمغ العربي والملح والنيلة وغيرها كنقود سلعية، إلى جانب بعض العملات الأوربية. وشاع التعامل مع دخول المستعمر مطلع القرن الماضي بالفرنك الفرنسي الذهبي والفضي الذي عرف محليا ب "لمزرنف".

أ- مرحلة فرنك المستعمرات الفرنسية الغرب افريقية (1920-1944)

احتلت فرنسا منطقة غرب إفريقيا، وهي آنذاك عبارة عن ساحل العاج (كوديفوار)، داهومي (بنين)، السودان الإفريقي (مالي)، بلاد شنقيط (موريتانيا)، النيجر، السنيغال، توكو، وفولتا العليا (بوركينا فاسو). وجمعت مستعمراتها في إفريقيا الغربية سنة 1895 تحت سلطة حاكم عام.

أنشأت فرنسا "بنك إفريقيا الغربية" سنة 1901، كبنك مركزي، وكلفته بإصدار عملات فرعية للفرنك الفرنسي من أجل دمج المستعمرات الغرب إفريقية في الاقتصاد الفرنسي، وللمساعدة في التبادلات التجارية. وكذلك الحال بالنسبة لوسط إفريقيا.  وبعد إعلان إقليم موريتانيا مستعمرة فرنسية سنة 1920 شاع استعمال الفرنك غرب إفريقي تحت اسم "الكيت"؛ وتعني الورقة بالوولفية، وتم التأريخ بتلك السنة "عام الكيت" في قائمة حوادث السنين التي يستعملها الموريتانيون.

وفي سبتمبر 1939 أصدرت فرنسا مرسوما ينشئ نظام صرف مشترك لجميع الامبراطورية الفرنسية، فكان المرسوم إعلانا لنشأة "منطقة لفرنك".

ب‌-   مرحلة توقيع فرنسا على "اتفاقية النقد الدولية" (1945 - 1957)

استمر التعامل بالكيت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، حيث تم إصدار "فرنك المستعمرات الإفريقية الفرنسية franc des colonies françaises d'Afrique"  المعروف ب " سيفا CFA"  بعد توقيع فرنسا على اتفاقية النقد الدولية التي دعت إليها الأمم المتحدة (44 عضوا آنذاك)، بتاريخ يوليو 1944، من أجل حفظ الاستقرار المالي، وتشجيع التجارة الدولية بعد الحرب العالمية، وعرفت تلك الاتفاقية باسم "بريتون وودز 1944-1971". وتكرست بموجبها هيمنة أمريكا بدل أوربا، وتم تثبيت قاعدة الاعتماد على الذهب والدولار، وقابلية تحويل الدولار الأمريكي مع بعض العملات الأساسية إلى ذهب، مع تأكيد أسعار الصرف الثابتة للعملات (نظام الصرف الأجنبي؛ الفوركس) بدل التكتلات، وقاعدة العرض والطلب للعملات.. التي كانت سائدة.

قررت فرنسا بموجب المرسوم 45-0136 بتاريخ 25 ديسمبر 1945 الذي يحدد قيمة بعض العملات في أقاليم ما وراء البحار مقومة بالفرنك الفرنسي إصدار الفرنك غرب إفريقي من طرف "الصندوق المركزي الفرنسي لما وراء البحار" (الوكالة الفرنسية للتنمية ADF حاليا).

وكان سعر صرف لفرنك الافريقي سنة 1.7 فرنك فرنسي سنة 1945 و2 فرنك فرنسي سنة 1948، ويلاحظ ترجيح الفرنك الإفريقي نظرا لحالة الاقتصاد الفرنسي الصعبة بعد الحرب العالمية الثانية، ولفرض توريد المنتجات الفرنسية الرخيصة إلى المستعمرات الفرنسية ما وراء البحار.

أسست فرنسا سنة 1946 الاتحاد الفرنسي ليحل محل التنظيم الاستعماري القديم، مما سمح للمستعمرات بالتمثيل في الجمعية الوطنية الفرنسية ولكن بدون سيادة.

ج‌-   مرحلة الحكم الذاتي لدول غرب إفريقيا  (1958-1959)

مع بدء الدول الإفريقية التصويت لصالح الحصول على الحكم الذاتي سنة 1958 تحول الفرنك غرب إفريقي إلى "فرنك المجموعة المالية الإفريقية الفرنسية Franc de la Communauté Française d'Afrique".

د‌-     مرحلة الاستقلال عن فرنسا (1960-1972)

إبان الاستقلال وتحديدا سنة 1959 تم إنشاء البنك المركزي لدول غرب إفريقيا، وقد قام بإصدار فرانك المجموعة المالية الإفريقية Franc de la Communauté Financiére Africaine للدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا برعاية فرنسا. وتم ربط فرانك سيفا بالفرنك الفرنسي بضمان صرفه بمقابل ثابت، مقابل إيداع 100% من ودائع النقد الأجنبي لدول لفرنك للبنك المركزي الفرنسي تحت ذريعة توفير غطاء نقدي، مع التكفل بطباعته.

ويتم إيداع المبالغ في حساب بفائدة يتم تحويلها سنويا إلى تلك البلدان. وسنة 1973 خفضت هذه النسبة من 100% إلى 65%، وإلى 50% سنة 2005. وقد حدد سعر صرف ثابت للفرنك الإفريقي لدى جميع المؤسسات الفرنسية قدره 0.02 فرنك فرنسي لكل واحد فرنك سيفا. كما تمنح فرنسا سلفة لا تتجاوز 20% من إيرادات الميزانية لكل دولة على حدة لسد العجز، وأربعة خبراء اقتصاد يعملون في البنك المركزي الإفريقي، مع فتح الباب لأي دولة ترغب في الخروج من الاتحاد النقدي وإصدار عملتها الخاصة، وإمكانية انضمام الدول الافريقية من خارج المستعمرات الفرنسية.

إن الفرنك الإفريقي هو العملة الرسمية ل: 15 دولة إفريقية من غرب ووسط إفريقيا، 12 منها مستعرات فرنسية سابقة، ويرى البعض أنه عملة موروثة من الاستعمار الفرنسي تخضع بموجبها هذه الدول للنظام المصرفي الفرنسي، والشركات الفرنسية، بينما يرى آخرون أن ربط الفرنك الإفريقي بقيمة ثابتة من الفرنك الفرنسي وضمان صرفه له آثار إيجابية من حيث استقرار الاقتصاد الكلي لهذه الدول، وأنه تعاون إفريقي فرنسي يتيح لهذه البلدان ذات الاقتصاديات الهشة والأنظمة السياسية غير المستقرة الاستفادة من استقرار العملة والحد من مخاطر الدخول في التضخم الجامح، وأن لفرنك الإفريقي رافعة نحو الاتحاد النقدي.

وبعد إنشاء الاتحاد النقدي الأوربي انتقل ربط فرنك سيفا من لفرنك الفرنسي إلى اليورو. وقد وافقت فرنسا مؤخرا على تقليص الإشراف التاريخي على فرانك سيفا، وإصدار العملة الإفريقية "إيكو"، الذي كان مقررا سنة 2020؛ (إلغاء إشراف خبراء الاقتصاد الفرنسيين، وإيداع 50% من الاحتياطي الأجنبي لدى الخزانة الفرنسية). وقد تأخر إصدار العملة الجديدة بسبب الجائحة، وعوامل أخرى إلى سنة 2027.

هـ - مرحلة العملة الموريتانية الأوقية (1973-2019)

ظلت موريتانيا بعد الاستقلال تحت مظلة الفرنك غرب إفريقي إلى أن قرر الرئيس المؤسس المختار ولد داداه الانفصال عنه سنة 1972، وإصدار الأوقية كعملة وطنية، وقد راعى في ذلك المحافظة على القيم التاريخية المعنوية والرمزية، والتحرر الاقتصادي، وتغليب السيادة الوطنية للدولة الفتية التي أقيمت على رقعة مترامية الأطراف كانت عبارة عن تجمعات لعائلات على مساحات صغيرة بدون سلطة مركزية.

1- ميلاد الأوقية (1973-1978)

أعلن عن إنشاء العملة الموريتانية الأوقية في مناسبة عيد الاستقلال 28 نوفمبر 1972 بعدما أحيطت السلطات الفرنسية علما بذلك، وقام البنك المركزي الموريتاني بإصدارها رسميا يونيو 1973. وكانت البلاد قد خرجت لتوها من موجة الجفاف الأولى بعد الاستقلال التي استمرت من 1968 إلى 1973، وبقيت تبعاتها القاسية نظرا لأن اقتصاد الدولة الوليدة يعتمد على الزراعة المطرية وتنمية المواشي، بينما يتم تمويل البرامج الاستثمارية عن طريق الهبات والتبرعات والمساعدات من الخارج.

وقد ساهمت الكويت بتغطية إصدار الأوقية كعملة جديدة في الفترة 1973 إلى 1978 بثلاث ودائع بلغت 36 مليون دولار وهي ما يمثل 43.6% من ما بات يعرف بالديون الكويتية التي شكلت ثغرة في الذمة المالية لموريتانيا، إلى أن تمت تسويتها مؤخرا. بينما ساهمت قرابة 60% المتبقية من الديون الكويتية في تأميم شركة ميفرما، بعد إحدى عشرة سنة استخرجت خلالها أكثر من مائة مليون طن من خام الحديد؛ ليكون ذلك الحدث الأبرز في العصر الحديث لموريتانيا، فقد تم تأسيس الشركة الوطنية للمعادن- اسنيم؛ عصب الاقتصاد الوطني والمساهم الأكبر في مداخيل الخزينة العمومية، "70% سنة 1980 من إيرادات الخزينة".

وقد مكن التحرر الاقتصادي من ربقة الفرنك الفرنسي من إمكانية التعاقد مع مختلف الشركات العالمية خارج الإطار الفرنسي، وخارج الشروط الفرنسية ومؤسسات النقد الدولية لتمويل المشاريع التنموية، وخاصة تمويل وإنجاز طريق الأمل؛ شريان الحياة الذي يربط بين شرق موريتانيا وغربها.

ويعتبر مبلغ 40 مليون دولار -56.4% من الديون الكويتية- الذي ساهمت به دولة الكويت كقرض بعد تأميم ميفرما جزءا من المبلغ الضخم (155 مليون دولار) الذي أجبرت موريتانيا قضائيا على دفعه للمساهمين في الشركة كتعويضات، مع أنها كانت على وشك الانسحاب طواعية قبل التأميم 1974؛ بسبب انتهاء حقبة الاستعمار (تأسست 1952 وبدأت الإنتاج 1963)، والإضرابات المطالبة بتأميمها، وقد انخفض الإنتاج نتيجة عدم رغبتها في زيادة تكلفة الانسحاب بتجديد البنية التحتية للشركة التي بدأت في الاندثار بعد عقد من التشغيل. وقد تم تسديد بقية المبلغ عن طريق تبرعات كل من السعودية والعراق والجزائر وليبيا.

بعد تورط موريتانيا في حرب الصحراء التي أنهكتها اقتصاديا وعسكريا لم تمهل المؤسسة العسكرية الرئيس المؤسس الذي لم يمض سوى سنتين من مأموريته الرابعة، وقد فقدت الأوقية 60% من قيمتها مع حرب الصحراء، وتبعات موجة الجفاف وكانت قاب قوسين أو أدنى من الدخول في مرحلة التضخم الجامح.

2- المرحلة الخالية من الرؤساء في الذهنية الجمعية (1978-1980)

عانت موريتانيا خلال هذه الفترة من انعدام الاستقرار السياسي حيث تعاقب عدة رؤساء على كرسي الحكم في موريتانيا في فترة وجيزة مما أدى إلى دخول البلاد في أزمة مالية بعد أن كانت على حافة الإفلاس بسبب حرب الصحراء. وسنة 1980 وصلت نسبة التضخم 23% وسعر صرف الأوقية 46 أوقية مقابل الدولار.

3- مرحلة مقاطعة موريتانيا لمؤسسات النقد الدولية (1980-1984)

لقد كان الحدث الثاني الأبرز في الاقتصاد الوطني بعد تأميم ميفرما مع الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيداله؛ حيث تم دمج قطاع الصيد سنة 1980 بتأسيس أول شركة موريتانية للصيد، فقد كان قطاع الصيد يدار بصفة عشوائية، وسنة 1984 التي غادر ولد هيداله فيها الحكم ساهم قطاع الصيد بنسبة 40 % من مداخيل الخزينة، كما وفر 60 % من حاجة البلد من العملة الصعبة. وقفزت صادرات البلاد من 1 مليار أوقية قبل إنشاء الشركة إلى  30 مليار سنة 1986.

وقد ألغى ولد هيداله الرق وقام بإصلاح عقاري، وخلال فترة حكمه تم إنشاء سد فم لكليته الذي كان يعتبر ثاني سد في إفريقيا بعد السد العالي في مصر، كما أنه المورد الزراعي والاقتصادي الكبير الذي لم تتم الاستفادة منه حتى اللحظة، خاصة أنه بني بتقنية هندسية فريدة تجعله لا يتقادم ولا يحتاج إلى مصاريف صيانة؛ وإنما يقوم بإزالة الرواسب بطريقة تلقائية عن طريق مصارف خاصة معدة سلفا لذلك الغرض.

كما رفض التعامل مع صندوق النقد الدولي الذي كان قد طالب بالخصخصة وتخفيض قيمة الأوقية بنسبة 30% لجلب الاستثمارات الأجنبية.

4- مرحلة الانفتاح على مؤسسات النقد الدولية (1984-2005)

صُمم برنامج "التكيف الاقتصادي" الذي تبنته مؤسسات النقد الدولية سنة 1986؛ وهو يتكون من جزأين هما: التثبيت الاقتصادي الذي هو عبارة عن سياسات قصيرة المدى برعاية من صندوق النقد الدولي تهدف إلى خفض التضخم واستعادة قدرة العملة على التحويل.. والجزء الثاني هو: التكيف الهيكلي الذي هو من اختصاص البنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية، ويهدف إلى تحرير الاقتصاد والتجارة من خلال رفع السيطرة والضبط واتباع الخصخصة.. كما تبنت المؤسسات الدولية استراتيجية الحد من الفقر سنة 1999.

وفي هذه المرحلة عرفت موريتانيا أربعة برامج اقتصادية تحت إشراف مؤسسات النقد الدولية؛ بوصفها مختصة في الاصلاحات المالية، وبمساعدة شركاء موريتانيا في التنمية، وهي: البرنامج الاقتصادي 1985-1988، وبرنامج الدفع والدعم 1989-1991، والبرنامج الاقتصادي 1992-1995، وبرنامج مكافحة الفقر سنة 2000.

وتمثل برنامج الإصلاح في تخفيض العملة وتحرير التجارة وتقليل عجز الموازنة من خلال إلغاء الدعم وتجميد الأجور وخفض التشغيل في الوظائف الحكومية واقتصار التوظيف على الصحة والتعليم، وبلغ الغطاء الاستثماري الذي تسلمته موريتانيا على مدى الفترة 1985 إلى 2005 حوالي 5.5 مليار دولار ذهبت كلها أدراج الرياح بالرغم من أن موريتانيا خفضت عملتها 310% ومنعت الاكتتاب من سنة 1985 إلى 2005 في الوظائف الحكومية عدا الصحة والتعليم.

وكان من النتائج الكارثية لهذه الإصلاحات: انهيار الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر والآلاف من العاطلين عن العمل، وقد أخذ مؤشر التضخم منحنى تصاعديا 52 و73 و 100 و144 للسنوات 1999، 1995، 2000، 2005. كما انهارت الأوقية مقابل الدولار: 81 و 130 و 240 و 265 لنفس السنوات السابقة. وذلك بسبب استشراء الفساد بشكل فاحش، وتهريب الأموال من طرف النخب الموريتانية إلى الخارج.

ويعتبر الاقتصاديون طرح عملة جديدة قرارا صعبا، لكنهم يرون أنه يتحتم في حالة التضخم الشديد وانهيار سعر الصرف، أو تزوير العملة المحلية على نطاق واسع. وهذه الشروط الثلاثة توفرت حرفيا في الأوقية سنة 2004، حين تم استبدال العملة المتداولة منذ سنة 1974، بينما تم ذلك بدعوى تصغير حجمها الكبير ومكافحة التزوير واعتبر ذلك الحل الأنجع لرد الاعتبار لقيمة الأوقية، من دون اتخاذ التدابير المعروفة من المنظور الاقتصادي.

5-   المرحلة الانتقالية (2005-2007)

واجهت موريتانيا خلال هذه المرحلة العديد من التحديات السياسية والاقتصادية بسبب المقاطعة وكذلك بسبب مراجعة بعض الاتفاقيات والشراكات لكنها سرعان ما تغلبت على تلك الصعوبات بإجراء انتخابات وصفت حينها بأنها شفافة من الناحية التقنية.

6-   مرحلة الرئيس المدني المنتخب (2007-2008)

سنة 2007 خاضت موريتانيا تجربة ديموقراطية فريدة نالت بموجبها تقديرا وحظوة عالمية وثقة من الشركاء والممولين الدوليين، وبعد إلغاء الدين الخارجي قامت الحكومة الموريتانية بإعداد برنامج تنموي حصلت بموجبه على 2.1 مليار دولار لدعم برامج الاستثمار و2 مليار دولار من البنك الدولي لدعم مشاريع الإصلاح الاقتصادي وتطوير البنية التحتية.

7-   مرحلة البوليمر وحذف صفر من القاعدة النقدية للأوقية (2009- 2019)

شهدت أسعار خامات الحديد طفرة كبيرة في الفترة بين نهاية 2009 إلى 2014 مما أدى إلى انتعاش الاقتصاد الموريتاني، لكن عدم وجود برامج اقتصادية واضحة أدى إلى عدم إعمار البنية الإنتاجية ومشاريع البنية الأساسية، والخدمات العامة، ومع أزمة تباطؤ الطلب الصيني سنة 2015، بدأت الأزمة المالية في امتصاص عائدات تلك الفترة التي لم نحسن استغلالها. كما تعرضت الدولة إلى فساد مالي وإداري منظم وممنهج.

سنة 2009 تمت طباعة ورقة خمسة آلاف  وورقة الألفين سنة 2011، وبدأ إصدار بعض الأوراق النقدية من البوليمير لجودته وفعاليته ضد التزوير. ونظرا للتضخم الكبير والتدهور المتواصل لقيمة العملة اضطر البنك المركزي سنة 2018 لاستبدال العملة من جديد للمرة الثانية بحجة رد الاعتبار لها بالرفع من قيمتها المعنوية بحذق صفر من القاعدة النقدية، وتعميم البوليمر وتصغير حجمها للمرة الثانية. وهو ما عرف بالإصلاح النقدي الذي أعلن عنه في كيهيدي بمناسبة عيد الاستقلال 28 نوفمبر 2017. بلغ سعر صرف الأوقية 372.3 مقابل الدولار نهاية 2019.

لقد كان من المفروض أنه خلال العقود الخمسة الماضية من إنشاء عملتنا الوطنية الأوقية أن تنتقل بلادنا نقلة نوعية خمس مرات من عتبة اقتصادية إلى أخرى أرفع، لكن ما حدث للأسف الشديد هو تضييع الفرص الكبيرة والظروف الدولية المواتية، وهدر الموارد. وليت الأمر اقتصر على ذلك فحسب وإنما ورَّث الفساد مليارات الدولارات التي تثقل كاهل الدولة، وتشكل عقبة في وجه التقدم والنماء.

 وخلاصة تجربة قرن من الزمن من تداول الأوراق النقدية في موريتانيا نقرؤها موجزة في تقرير التنمية البشرية لسنة 2019 حيث أورد أن 50.6 في المائة من سكان موريتانيا يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.

رابعا: السنتين 2020 و 2021 بعد قرن من الزمن على تداول الأوراق النقدية

تعتبر قوة العملة الوطنية مؤشرا على قوة الاقتصاد، وكما رأينا، آنفا فإن قوة العملة تعتمد على مكانة الدولة وحجمها وكمية الإنتاج ومقدار الثروات الوطنية والرصيد من الذهب. إضافة إلى الاستقرار السياسي والأمن الإقليمي وجاهزية برامج الحماية للتغلب على الظواهر الطبيعية وخبرة البنك المركزي المسؤول عن إصدار العملة وكل ما يتعلق بها.

ومؤخرا وصفت مؤسسة دولية الاقتصاد الموريتاني بأنه "بالغ الحساسية للصدمات الخارجية كاضطراب أسعار المواد الأولية والظروف المناخية والأزمات السياسية".

1-    مكانة موريتانيا:

موريتانيا من حيث المساحة هي الخامسة الأكبر عربيا والحادية عشرة إفريقيا كما أنها تمتلك الموارد والمصادر الطبيعية، والمقدرات الكبيرة،  وقد تميزت في السنتين المنصرمتين بمكانة سياسية معتبرة بين الدول عربيا وإفريقيا وعالميا، وذلك من خلال سياسة النأي بالنفس وحسن الجوار والحياد الإيجابي والانفتاح والشفافية والتحلي بروح المسؤولية في تسوية النزاعات التجارية والتعاقدية والدبلوماسية.

2-    البنك المركزي:

بعد عدة عقود من الفوضى والتسيب تم سنة 2020 تعيين محافظ البنك المركزي ونائبه من الأوساط الاقتصادية والمالية مما انعكس بشكل إيجابي بالحصول من معهد بازل على تقييم معتبر للشروط الأربعين، خلافا لتقريره لسنة 2019.

3-    الظواهر الطبيعية (كوفيد – 19):

يعود جزء كبير من ارتفاع الأسعار في هذه الفترة إلى الصدمة المفاجئة لكوفيد- 19، حيث أن أسعار الشحن ارتفعت 800% دفعة واحدة  مما سبب نقصا كبيرا في الإمدادات بسبب الحجر الصحي، وارتفاع أسعار تأجير الحاويات. وقد مكن صندوق كورونا من تخفيف آثار الجائحة. كما أن الدعم العربي والدولي، وجدولة بعض الدين الخارجي، وتحسن معدلات التبادل التجاري، قد خفف الضغوط على الحساب الخارجي وحسابات المالية العامة.

وقد تسبب الحجر الصحي خلال السنتين المنصرمتين في تدني قطاع الأسماك والخدمات والنقل والتجارة وخاصة في نواكشوط ونواذيب، ومن المتوقع أن تعود الأمور إلى طبيعتها فبراير 2022، مع انحسار الوباء بسبب وفرة اللقاحات، وانتهاء موسم الشتاء. هذا بطبيعة الحال إذا لم تكن للمتحور "أوميكرون" كلمة أخرى.

4-  الرصيد من الذهب:

إن افتتاح 11 مناطقة عسكرية كانت مغلقة أمام التنقيب الأهلي شكل طفرة معتبرة في كمية الذهب التي تم استخراجها في هذه الفترة، إضافة إلى توفير أكثر من 150 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في وقت كان العالم يعاني من تداعيات كوفيد، وقد ساهم الحجر الصحي في التقليل من ضرر السوق السوداء للذهب لاستحالة التهريب. وتم إشراك المستثمرين المحليين بمنح 91 رخصة منجم صغير؛ ويعتبر المنجم الصغير استثمارا ماليا كبيرا في حدود 10 ملايين دولار، كما يتطلب خبرة دولية. وقد بلغ إنتاج سنة 2020 من التنقيب الأهلي 5.6 طن من الذهب، ويمثل إنتاج الثمانية أشهر الأولى من 2020 الذي ناهز 5 طن -حسب مصدر رسمي- ثلث إنتاج جميع الشركات العامل في مجال الذهب في موريتانيا. وتتوقع شركة معادن موريتانيا أن يصل إنتاج التنقيب الأهلي عن الذهب إلى 36 طنا سنويا في أفق 2023.

5-    الإنفاق الحكومي:

إن الإسراف في الانفاق الحكومي يؤثر سلبا على قيمة العملة المحلية لزيادته لعرض النقود، مما يتسبب في زيادة الطلب المحلي؛ وهو ما يؤدي لارتفاع الأسعار وبالتالي ارتفاع التضخم. فعلى الدلة إذن ترشيد الإنفاق ورفع كفاءته للحد من الضغوط التضخمية.

وهذا ما يظهر من موازنة 2020 حيث تنفيذ 80% من الميزانية ونفس الشيء بالنسبة ل: 2021. وكذلك تم الاعتماد على القروض الميسرة.

6-     التخطيط العمراني:

إضافة إلى ما تواجهه موريتانيا من التقري الفوضوي فإن الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية وشبه الحضرية قد شكل فوضى عمرانية كبيرة، ويرى بعض الاقتصاديين أن التخطيط العمراني من أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه موريتانيا. إن ما قامت به الوزارة الوصية من إنشاء المخططات العمرانية والمباشرة في تنفيذها سيشكل دافعا قويا لنمو الاقتصاد.

7-    الدين الخارجي:

تم شطب الدين الخارجي لموريتانيا سنة 2007 ما عدا ديون الكويت المجمدة. وتظهر قاعدة بيانات البنك الدولي أن إجمالي رصيد الدين الخارجي المستحق على موريتانيا، انتقل من ملياري دولار في 2008 إلى 5.21 مليارات دولار في العام 2018. وقد تفاقمت التأثيرات السلبية الكبيرة لهذه التركة الثقيلة مع ظهور جائحة كوفيد، خاصة إذا علمنا أن تلك الديون لم توجه للقطاعات التي يتم إعفاؤها وفق معايير صندوق النقد الدولي كالصحة والتعليم، وإنما تم توجيهها لقطاع البنية التحتية وتجديد شبكة الطرق..

وهذا ما جعل السلطات العليا في البلد تستخدم جائحة كوفيد كذريعة للمطالبة في العديد من الاجتماعات الدولية بضرورة إعفاء ديون بلادنا وإفريقيا للتغلب على تأثيرات الجائحة. وبالنسبة لديون الكويت فقد دخلت بلادنا في مفاوضات مع دولة الكويت مكنت من التوصل إلى حل نهائي لها. كما تم التوصل لجدولة بعض الدين الخارجي للمساعدة في التغلب على تأثيرات الجائحة.

8-    منجم تازيازت للذهب:

بدأت قصة منجم تازيازت عام 2004 بحصول شركة بريطانية على ترخيص قادها إلى اكتشاف احتياطي كبير من الذهب في منجم تازيازت باعته لشركة كندية استثمرت بدورها مبلغ 210 ملايين دولار لتطوير المنجم، وبدأت أنشطتها عام 2008، إلا أنها قررت أن تبيع المنجم عام 2010 لشركة كينروس الكندية مقابل 7 مليارات دولار أمريكي.

ويعتبر منجم تازيازت أكبر منجم للذهب في شمال إفريقيا، وتطمح الشركة المستغلة للمنجم لأن يكون ثاني أكبر منجم للذهب في العالم من خلال مشروع توسعة  بحوالي مليار دولار. وقد كانت الشركة تقوم باستغلاله باتفاقية غير منصفة تتضمن بعض الإعفاءات الضريبة وتخل بالتشريع المعدني الموريتاني. وقد تعالت الأصوات بضرورة تأميم شركة تازيازت؛ إلا أن النظام الحالي ربما رأى أنه من غير المفيد للبلد تكرار تجربة النزاع والتعويض الباهظة مع تأميم شركة الحديد، التي أنقذتنا منها تبرعات الدول العربية، في ظل الطفرة النفطية في السبعينات المعروفة.

دخلت موريتانيا في مفاوضات مع شركة كينوروس توصلت من خلالها إلى اتفاق تدفع بموجبه الشركة 10 مليون دولار مقابل الإعفاءات الضريبية على المحروقات، وتزيد الإتاوة المعدنية تدريجيا من 3% إلى 6.5% وهو ما قد يرفع إيرادات موريتانيا من منجم تازيازت إلى 2 مليار دولار في حالة تجاوز الذهب 1800 دولار للأونصة.

احتياطي النقد الأجنبي:

لقد تم دعم الإنتاج الزراعي سواء على مستوى الزراعة المطرية أو الزراعة المروية  بهدف زيادة الإنتاج الوطني للحد من نزيف العملة الصعبة، كما تنوعت مصادر العملة الصعبة بإضافة معدن الذهب؛ حيث تصدر عائدات موريتانيا متجاوزا الحديد والنحاس والسمك التي ظلت تحتل الصدارة خلال العقود الماضية، وبلغت عائدات الذهب لسنة 2020 حوالي 780 مليون دولار. وارتفع الاحتياطي تلك السنة بنسبة 45%.

9- التغيرات المناخية:

لا تعد موريتانيا من الدول المساهمة في التغيرات المناخية لكنها من بين الدول الأكثر تضررا منه، لكونها من بين الدول الأكثر هشاشة اتجاه التغيرات المناخية. وحسب وزارة البيئة يؤثر التصحر على ما يقرب من 84.70٪ من التراب الوطني ويقدر تدهور الأراضي بنحو 200.000 هكتار كل عام، ويتراجع الغطاء النباتي بحوالي 7500 هكتار سنويا، كما أن الحرائق الريفية تدمر ما بين 50.000 و 200.000 هكتار كل عام.

ويعتبر الهيدروجين الأخضر المنتج من الطاقة النظيفة قادرا على إنقاذ العالم من التغيرات المناخية الناتجة عن الانبعاثات الكربونية الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري. وتعتبر موريتانيا من المناطق الغنية بالشمس والرياح إضافة إلى امتلاكها مناطق صحراوية شاسعة توفر إمكانية إنتاج الهيدروجين الأخضر بتكلفة إنتاج تنافسية مع القرب من الأسواق العالمية.

وقد وقعت موريتانيا مذكرة تفاهم مع شركة "سي دبليو بي غلوبال" لإنشاء أضخم مشروع في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر باستثمارات تقدر ب 40 مليار دولار، ومن المتوقع بدء الإنتاج سنة 2030. كما وقعت مع شركة "شاريوت" مذكرة تفاهم باستثمارات تقدر ب: 3.5 مليار دولار لإنتاج الهيروجين الأخضر، وسيكون هذا المشروع هو الأكبر من نوعه على المستوى الافريقي.

ويشكل الطلب على الهيدروجين نسبة 4% من إجمالي الطلب العالمي على الطاقة، وسيجلب لموريتانيا الكثير من المنافع البيئية والاقتصادية والاجتماعية.

10- برامج الحماية الاجتماعية

ركز النظام الحالي منذ البداية على برامج الحماية الاجتماعية، حيث تم بموجب مرسوم رئاسي صادر بتاريخ 29 نوفمبر 2029 إنشاء المندوبة العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء – تآزر؛ وتهدف هذه المؤسسة -حسب ما أعلن عنه حينها- إلى تحقيق الحماية الاجتماعية، واستئصال كافة أشكال التفاوت، وتعزيز الانسجام الوطني  وتنسيق كافة التدخلات في المناطق المستهدفة. وذلك بتعزيز أدوات الإنتاج وتطوير القدرة الشرائية لدى الفقراء  وتمكينهم من النفاذ إلى خدمات التعليم والصحة والماء الصالح للشرب والسكن. بعد أشهر قليلة من إنشاء هذه المؤسسة اجتاحت العالم موجة كوفيد- 19، وقد تدخلت للتخفيف من وطأة الحجر الصحي وتأثيرات الجائحة على الفئات الهشة، حيث قامت بتوزيع مئات الآلاف من السلات الغذائية ووزعت تحويلات نقدية بلغت 10 مليارات أوقية، إضافة إلى تزويد قرابة الألفين دكان في كافة أنحاء البلاد بالمواد الاستهلاكية الأساسية بأسعار مناسبة، إضافة إلى التأمين الصحي..

11- المركزية للتموين والشراء

بعد الارتفاعات المتكررة التي شهدتها بعض السلع الأساسية نتيجة مضاعفات كوفيد أعلنت الحكومة العديد من الإجراءات بالتعاون مع التجار الخصوصيين لخفض الأسعار. وقد ارتفعت الأسعار مؤخرا بنسبة تتراوح بين 15% إلى 30 %. ومع تمادي التجار الخصوصيون على رفع الأسعار بصورة فاحشة بنسبة تفوق الارتفاع العالمي مستغلين حرية اقتصاد السوق أعلنت السلطات العليا للبلد عن نيتها إنشاء كيان حكومي ستكون مهمته الأساسية السيطرة على غليان الأسعار، وفي مرسوم رئاسي بتاريخ 30 أكتوبر 2021 أعلن عن إنشاء "المركزية للتموين والشراء" بهدف ضبط الأسعار ومنع الاحتكار داخل السوق. ويأتي دور هذه المؤسسة معززا لما تقوم به مفوضية الأمن الغذائي.

ومع الجهود المبذولة والآفاق التي نعتبرها واعدة فإن أحد خبراء الاقتصاد يرى أن آفاق الاقتصاد الكلي لموريتانيا حسب رأيه لا تزال عرضة لأربعة مخاطر رئيسية؛ وهي التأثير المطول لجائحة كوفيد، والأخطار المناخية، والتأخيرات المحتملة في الإصلاحات الهيكلية، وانعدام الأمن الإقليمي.

خامسا: مقترحات وتوصيات

يعتبر التضخم من أكثر المصطلحات الاقتصادية تداولا في الحياة اليومية في العالم بأجمعه، فهو من المشاكل الكبيرة التي تواجه جميع الاقتصاديات في العالم المعاصر، وتستوي في ذلك البلدان المتقدمة والدول النامية، وقد أصبحت للتضخم أدبيات اقتصادية، ومالية، وإحصائية، ومقاييس ومعالجات على المستوى الكلي والجزئي.

لكن خبراء الاقتصاد بدأوا بالنظر في كون التضخم ظاهرة اقتصادية صحية في مضمار النمو واستحداث التنمية، واعتبروا أن المشكلة تكمن في كيفية استخدامه، والتحكم فيه، ومعالجة المشاكل الناجمة عنه. 

إضافة إلى ما قامت السلطات العليا للبلد، هذه بعض المقترحات والتوصيات التي قد تسهم في تعزيز التحسن الملحوظ للأوقية، حتى تتمكن من ترميم ما لحق بها من وهن في العقود الماضية.

1-    إنشاء وزارة للمغتربين:

لقد صرح وزير خارجيتنا الحالي أن تعداد جالياتنا في الخارج قد تجاوز نصف مليون مواطن، وتعتبر تحويلات المغتربين من أهم التدفقات المالية، مع تخفيفهم من الأعباء على كاهل الدولة بهجرتهم القسرية بسبب هدر موارد الدولة ومقدراتها في العقود الماضية، وهو ما يتطلب العناية الخاصة بهم بإنشاء وزارة خاصة بهم للرفع من الخدمات والتسهيلات الإدارية والقنصلية.. ومنحهم تحفيزات ضريبة واقتصادية.

2-    تشغيل أصحاب الكفاءات والخبرة:

إن الإدارة غير الخبيرة وغير الكفؤة تدفع بظاهرة التضخم بشكل يقوض ركائز الاقتصاد. خاصة أنه تم الاعتماد في العقود الماضية على أصحاب شهادة الإعدادية ومستوى بكالوريا نتيجة توقف الاكتتاب في الوظائف الحكومية عدا التعليم والصحة في الفترة ما بين 1985 و 2005.

3-    إنشاء بنك للتمويلات متناهية الصغر:

لقد انضمت الفئة المتوسطة الضرورية لتنشيط الاقتصاد إلى طبقة الفقراء، وأصبحت الغالبية منهم من الفئات الهشة والتي تتطلب عناية خاصة، ومن أجل إعادة دمجها في الدورة الاقتصادية لابد من إنشاء بنك يمنحها قروضا متناهية الصغر بدون ضمان وبدون فائدة، على غرار تجربة الاقتصادي محمد يونس في بنغلاديش التي نال بموجبها جائزة نوبل للسلام مناصفة بينه وبنكه "غرامين".

وسيكون هذا البنك معززا لدور الصندوق الذي تم إنشاؤه سنة 2020 من أجل ضمان القروض المقدمة للمشاريع المتوسطة والصغيرة لمساعدة العاطلين عن العمل الذين ليس بمقدورهم الحصول على ضمان أو ضامن لتقديمه للبنوك التجارية ومؤسسات القرض.

4-    تعزيز مشاركة المرأة:

إن الطبيعة التقليدية للمجتمع الموريتاني تجعل المرأة الموريتانية على هامش التنمية الاقتصادية مع تحقيقها في الفترة الماضية لبعض المكاسب السياسية. وينبغي تمكين ودعم المرأة الموريتانية للمساهمة في النشاط الاقتصادي بما يتلاءم مع تعاليم الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد. يرى أحد الاقتصاديين الدوليين أنه بتعزيزنا لمشاركة المرأة في الدورة الاقتصادية فإن ذلك سيزيد الثروة الموريتانية 19%، مما سينعكس بشكل إيجابي في الرفع من قيمة العملة الوطنية.

5-    تشجيع سوق الفوركس:

إن سوق تبادل العملات الأجنبية له دور كبير في تعزيز الاقتصاد وتوفير العملات الصعبة بسهولة للمبادلات التجارية مع دول العالم، لكنه يبقى في كثير من الأحيان مقتصرا على البنك المركزي والمؤسسات المصرفية. ويرى الخبراء الاقتصاديون أن أسواق تبادل العملات هي أسواق اعتيادية خلقتها التقنية وسهلت انتشارها. وسوق الفوركس ليس سوقا نخبويا  لكن عدم اهتمام الحكومات به جعله بعيدا عن العامة، فيكفي للراغب بالتجارة في هذا السوق أن يكون فوق سن 18 عام، وامتلاك جهاز حاسوب وإنترنت، وحساب فوركس. وهو لا يتطلب الكثير من الخبرة وإنما إنشاء مؤسسات موثوقة ومعتمدة.

6-    مكافحة الفساد:

مواصلة تنفيذ المطلب الاقتصادي والشعبي الملح؛ الذي هو مكافحة الفساد الإداري والمالي، ومحاكمة المتهمين به، ومعاقبة من تثبت إدانتهم، فالضرر الكبير الذي لحق بالعملة الوطنية يرجع في المقام الأول إلى استشراء الفساد، فمتى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وآخر يهدم.

7-    دعم الزراعة:

يعتبر الإنفاق الحكومي على الزراعة أحد أهم الأدوات اللازمة لتعزيز النمو الاقتصادي والتخفيف من حدة الفقر في الريف. لقد بدأت روندا نهضتها الرائدة منذ ثلاثة عقود بإرادة سياسية كانت الكلمة المفتاحية لها هي العبارة الشهيرة لرئيسها 《في أرضنا الحبيسة سنحصل على ما نحتاجه من العملة الصعبة من زراعة أرضنا الغير صالحة للزراعة》،  فلماذا لا نحصل نحن من خلال موانئنا على شاطئ المحيط الأطلسي على العملة الصعبة باستغلال نصف مليون هكتار صالحة للزراعة.

ربما تكون الكلمة المفتاحية لذلك بالنسبة لموريتانيا أن نكتتب المهندسين الزراعيين دفعة واحدة، فهم القادرون على تسيير القطاع، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية توفير الأمن الغذائي الذي يتأثر بالتضخم المستورد لاعتمادنا في الغذاء على الخارج، مع العلم أنهم حرموا من التوظيف من سنة 1985 إلى غاية التعيينات الأخيرة سنة 2021. كما أن على الخصوصيين أن يدركوا أن القطاع الزراعي بحاجة ماسة إلى القطاع الخاص لكنه بعد تعيين مهندس زراعي من خيرة أبناء القطاع البررة بامتياز، فإنه لم يعد هناك مكان البتة للزراعة السياسية وإنما استراتيجية القطاع هي سياسة زراعية محكمة وواضحة.

8-    المحافظة على وتيرة تحسن الأوقية وزيادتها:

خلال السنتين المنصرمتين شهدت الأوقية تحسنا ملحوظا في سعر صرفها مقابل العملات الصعبة المهيمنة، ومن المعروف أن سعر الصرف من أهم المؤشرات الاقتصادية؛ ولهذا ينبغي على الجميع أن يشمروا عن ساعد الجد من أجل مؤازرة السلطات العليا للبلد في هذه المرحلة المفصلية. كما أنه على المعارضة السياسية إعطاء الفرصة لتنفيذ البرامج الاقتصادية التي بدأت تؤتي أكلها، رغم التراكمات والتحديات وتزاحم الأولويات التنموية.

14. ديسمبر 2021 - 14:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا