تميز الإصدار الأخير من مجلة الاقتصاد والاعمال اللبنانية بعدد خاص ببلادنا عنوانه "موريتانيا الاستقرار والاستثمار"، خص فيه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رئيس تحريرها بمقابلة خاصة أثنى فيها رئيس التحرير على الثقافة الواسعة والمتنوعة لرئيس الجمهورية قائلا إنه يتقن فن الاستماع كما يتقن فن المداخلات، مضيفا أن لديه برنامج عمل وبرنامجا زمنيا للعمل، وأردف قائلا إنه ورغم أن جائحة كورونا جاءت في بداية عهده إلا أنه أنجز الكثير، وقد كانت أسئلة المجلة جريئة وواضحة وأجوبة فخامته في الصميم، وأود في هذا المقام من القارئ الكريم أن يعذرني إن قصرت في الإحاطة بمضامين هذه المقابلة التي أبانت عن دخول بلدنا مرحلة جديدة عنوانها الصرامة والمكاشفة ومحاسبة المقصرين الذين لا مكان لهم في هذا العهد الميمون.
بدأ الصحفي مقابلته بسؤال عن التحديات التي تواجه بلدنا من خلال التحولات الجيوسياسية التي تجري في محيطه؟
فكان جواب فخامة رئيس الجمهورية حصيفا كعادته، وبلغة العارف بخبايا أمن المنطقة بأدق تفاصيله معتبرا تلك التحديات طبيعية في مسيرة الدول والشعوب قائلا إن كل التحديات يمكن تحويلها إلى فرص حقيقية للنهوض والبناء، وهو بالضبط ما عمل بمقتضاه قبل أكثر من عقد من الزمن برؤيته الثاقبة يوم فرض علينا الإرهاب نفسه وهو آنذاك المسؤول المباشر عن الأمن، فكان للمقاربة المتكاملة التي مزجت فيها الجوانب الفكرية والثقافية والدينية والأمنية والعسكرية كبير أثر في تأمين حدودنا، وتقليل المخاطر في مدننا الداخلية، وإبعاد شبابنا عن مستنقع الإرهاب والتطرف.
وفيما خص اقتصادنا ورفع مستوى النمو؟
قال فخامته إن الجائحة ومضاعفاتها غيرت زاوية النظرة إلى الاقتصاد خاصة بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو، لأنه وبدل أن ينظر إلى المؤشرات الاقتصادية من خلال ارتفاع أرقام النمو أصبح ينظر إليها من زاوية عدم الانخفاض، وهو ما نجحت فيه بلادنا التي يتوقع أن تشهد نموا اقتصاديا بنسبة 7.5% بحلول العام 2023، ومع كل تلك المشاغل الاقتصادية العامة فإن الدولة لم تقف مكتوفة الأيدي بل باشرت وضع خطط استباقية مكنت من تخفيف آثار الجائحة على ذوي الدخل المحدود، فألغيت بعض الضرائب، وتم صرف معونات نقدية لصالح السكان الأكثر فقرا إضافة إلى توفير خدمات الماء والكهرباء بشكل مجاني لقطاع عريض من ذوي الدخل المحدود وهو ما كلف خزينة الدولة 25 مليار أوقية قديمة كمساهمة في صندوق مواجهة الجائحة الذي بلغت مجمل وارداته 81 مليار أوقية، أتبع ذلك بحزمة من الإجراءات أطلقت بعد الموجة الأولى وكلفت 240 مليار أوقية قديمة على مدى 30 شهرا.
وبالتزامن مع سعي الحكومة الحثيث لحماية الاقتصاد والسير الطبيعي لبرامج التنمية من تقلبات الجائحة، لم تؤثر حزم الإجراءات على المحافظ المالية التي اتخذت لمواجهة الجائحة، ولا التي أطلقت للتخفيف من آثارها، على المشاريع المبرمجة أصلا في الميزانية العامة للدولة.
أما فيما يخص ملامح الاستراتيجية المعتمدة؟
فأشار فخامته أننا ككل الاقتصادات السائرة في طريق النمو، نحتاج إلى استراتيجية متعددة الأبعاد متكاملة الأهداف، تقوم على أربع دعامات رئيسية هي:
-خلق فرص العمل: خاصة لدى الشباب، وهوما التزم به فخامته في برنامجه "تعهداتي" من خلال توفير 100 ألف فرصة عمل خلال 5 سنوات، واعتمدت له خطة أخذت في الحسبان تكوين الشباب لضمان ولوجهم لسوق عمل منتج، ومؤثر في الدورة الاقتصادية، وفي هذا السياق يأتي تأسيس المعاهد المهنية الجديدة، وتحسين أخرى كانت قائمة، مما مكن رغم الظروف الخاصة، من توفير أكثر من 48 ألف فرصة عمل دائمة، وأكثر من 75 ألف غير دائمة وهو ما يعني أننا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الهدف المنشود.
-تقوية الإنتاج المحلي: انصبت جهود الحكومة منذ تولي فخامته مقاليد السلطة على وضع سياسة تضمن الوصول للاكتفاء الذاتي في سلع استراتيجية كالأرز، والخضروات، وقد بدأت هذه السياسات تؤتي أكلها فيما يتعلق بالأرز، الذي بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي بخصوصه نحو 82% من احتياجات البلد وبجودة عالية، كما تعمل وزارة الزراعة الآن بالتنسيق مع بقية القطاعات على تطوير العمل فيما يتعلق بزراعة الخضروات وتخزينها، وتخطط الدولة لقفزة مهمة في العام القادم في مجال إنتاج الخضروات، سيقربنا من هدف الاكتفاء الذاتي حيث سنصل في الحملة الزراعية 2021-2022 إلى مستوى 250 ألف هكتار، وهوما سيوفر محاصيل تقدر ب 500 ألف طن.
-دعم القطاع الخاص: وهو ما تعكف الحكومة على تطويره عبر منحه فرصة تطوير شراكات مع القطاع العمومي، ودعم الاستثمارات النوعية لرجال الأعمال الوطنيين، والتنسيق بين المصالح الحكومية واتحاد أرباب العمل، والتشاور في كل الإجراءات والتشريعات والنظم ذات الصلة.
-توفير بيئة جاذبة للاستثمار: حيث أعطى فخامته تعليماته من أجل تطوير المنظومة القانونية الخاصة بهذا المجال، حتى أصبحت مدونة الاستثمار الوطنية، والقوانين ذات الصلة، توفر كل الضمانات التي يطلبها المستثمرون، فتم تقديم كل التسهيلات للمستثمرين من القطاع الخاص، الوطني والعربي والأجنبي.
واستحدث "مجلس أعلى للاستثمار"، و"وكالة لترقية الاستثمار"، وأنشئت "مديرية معنية بترقية الشراكة بين القطاعين العام والخاص" لغرض تسهيل الإجراءات الإدارية المتعلقة بالاستثمار.
أما بخصوص التوجه الجديد في ضوء القدرة على إنتاج كميات معتبرة من الغاز، فقد اعتبر فخامته أن الكميات المنتظرة سيكون لها انعكاس كبير على ميزان المدفوعات، والاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، وستسهم في تخفيف أعباء المديونية، وعلى الدعم المباشر لميزانية الدولة، مما سيتيح مساحة أكبر للتحرك في مجال البنية التحتية الداعمة للنمو، وتمويل مشاريع محاربة الفقر، وهو ما سيمكن من تحقيق رؤية فخامته في العدالة الاجتماعية، ومحاربة الغبن، كما ستنعكس إيجابا على التشغيل، ومحاربة البطالة، وستمكن من توفير طاقة داعمة للتصنيع، وتطوير المحتوى المحلي، عبر تطوير الشركات والمصانع، وسبق لفخامته أن قال: "أريد للشعب الموريتاني اقتصادا منتجا قائما على سواعد أبناء موريتانيا وعقولهم وأريد لثرواتنا الطبيعية ومنها الغاز والمعادن المختلفة أن تكون حافزا لتحقيق رفاه معيشي قائم على الإنتاج"، ولغرض تنويع مصادر الطاقة عبر الاستثمار في طاقة المستقبل، "الهدروجين الأخضر"، وقعت الحكومة في العام الحالي مذكرتي تفاهم للاستثمار في الهدروجين الأخضر "مشروعا أمان ونور"، بحكم امتلاكنا لمقدرات مناخية طبيعية بالإمكان اليوم بفضل التكنولوجيا تحويلها إلى طاقة بديلة نظيفة ومتجددة، مضيفا أنه لدى بلدنا تجارب ناجحة في هذا الصدد.
وفيما يتعلق بمرتكزات الإصلاح؟
قال فخامته أنه ومنذ وصوله إلى السلطة عمل على تأسيس إصلاحات هيكلية كلف الحكومة بالإشراف عليها، وتتمحور حول مرتكزين أساسيين هما:
-التشاركية: والتي تعني أن البناء الاقتصادي، يجب أن يكون شراكة بين الدولة، ممثلة بجهازها التنفيذي، والمجتمع ممثلا برجال أعماله، ومنظماته الاقتصادية، والمستثمرين الخارجيين، سواء كانوا دولا أو مؤسسات إقليمية ودولية، أو أفرادا لديهم دوافع للاستثمار في بلادنا.
-اللامركزية: وهو ما حسمت بشأن اعتماده سياسة لا مركزية داعمة لهذه الرؤية التشاركية، ليتسنى للمرافق العمومية للدولة القيام بأدوارها كاملة في خدمة الشراكة مع القطاع الخاص والدول والمنظمات الشريكة، ما يمنح ديناميكية أفضل للعمل، وتوزيعا أوسع للاستثمارات، ولرأس المال المحلي والوافد.
وفي سؤال متعلق بالصحة والتعليم؟
تحدث فخامته عن تركة ثقيلة سببتها تراكمات طويلة امتزج فيها الفساد بالإهمال وتم العمل على تجاوزها فورا بالاستفادة من جائحة كوفيد-19 في تحسين واقع المنظومة الصحية على مستوى التجهيز والتوسع، كما تم القيام ببعض الخطوات في سبيل تحسين ظروف عمال القطاع عبر زيادة الرواتب والعلاوات وهو ما ساهم في تحسين الخدمة المقدمة للمواطن في المستشفيات العمومية والمراكز الصحية وانصبت الجهود على تحسين انعكاس هذه التحسينات على حياة المواطن باعتماد حزمة من الإجراءات من ضمنها التكفل بالحوامل، ومجانية الإنعاش، والتكفل بمرضى الفشل الكلوي، علاوة على تأمين مئة ألف أسرة وهو ما يقارب 620 ألف مواطن موريتاني كلهم من ذوي الدخل المحدود.
أما فيما يخص المؤشرات المتعلقة بالتعليم فقال فخامته أنهم عاكفون على تخصيص 20% من ميزانية الدولة للتعليم عبر الرفع التدريجي لمخصصاته على مدى سنوات المأمورية الخمس، وقد وصلت هذه المخصصات في مشروع ميزانية العام 2021 إلى 18% خصصت هذه الزيادة لتحسين ظروف الأسرة التربوية عبر زيادة الرواتب والعلاوات والكادر البشري من خلال اكتتاب 6000 مدرس، واستثمار كبير في البنية التحتية والكتاب المدرسي متمنيا أن يلعب "المجلس الأعلى للتهذيب" الذي استحدث مؤخرا دورا استراتيجيا مثمرا خلال السنوات المقبلة.
وفيما يتعلق بالحوكمة ومحاربة الفساد؟
جدد فخامته التأكيد على "أن الفساد داء عضال وأن مواردنا المحدودة لا تتحمل أن تذهب حصة منها في غير ما هي مرصودة له"، وسبق وأن قال بأنه "لن يحمي مختلسا لأموال شعبنا أو متلاعبا بموارده العمومية وسيطبق كافة القوانين المتعلقة بمحاربة الفساد"، مجددا التأكيد على أن رؤيته لمحاربة الفساد وتعزيز
الشفافية تعتمد على موجهات أساسية، أولها تكريس مبدأ فصل السلطات المحمي دستوريا، وذلك بمنح السلطات القضائية والرقابية كامل استقلاليتها في حماية المال العمومي وفق الضوابط القانونية المعمول بها، وتفعيل الهيئات الرقابية التي تمتلك السلطة التنفيذية حق الوصاية عليها، كمفتشية الدولة التي أتبعت مؤخرا
لرئاسة الجمهورية في رسالة بالغة الدلالة على الجدية في محاربة الفساد، بعيدا عن الطرق الاستعراضية، لأن الفاعلية تنافي الضجيج في كثير من الأحيان، وتسييس القضايا الفنية مضر بالدول والمجتمعات.
وفيما يخص إصلاح القضاء؟
قال فخامته أنه وبحكم موقعه كحام للدستور، ومؤتمن عليه، فإن حماية استقلالية القضاء تمثل إحدى الواجبات الشخصية التي ينيطها به الدستور والقوانين، ولذلك فقد عمل على تحسين بيئة عمل القاضي، وتوفير الظروف المادية والمعنوية لأداء مهمته على الوجه المطلوب، مضيفا أن قضاءنا يعاني من تراكمات
طويلة تجعل مهمة إصلاحه صعبة، ولكنه مصر على جعله يتمتع بتلك الاستقلالية كاملة، مشيرا إلى أنه حين أحيل تقرير "لجنة التحقيق البرلمانية" إلى القضاء، وكان ضمن المشمولين فيه بعض المسؤولين العاملين في الحكومة اضطر إلى إخراجهم من وظائفهم، رغم الحاجة إلى خبراتهم، كي يتفرغوا للدفاع عن
أنفسهم، ولتخف الضغوط على القضاة الذين سيتعاملون مع الملفات.
وفي معرض رده على سؤال مرتبط بمواكبة رأس المال العربي لمسار التنمية في بلادنا؟
شكر فخامته كل أشقائنا العرب، على ما قدموا ويقدمون لاقتصاد بلادنا، وخص بالذكر أشقاءنا في المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ودولة الكويت، مشيرا إلى مواكبة رأس المال العربي الحكومي والخاص مسار التنمية في بلادنا منذ نشأة الدولة، وفي مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية
سواء عبر المساهمة في تشييد البنية التحتية للبلد، أو إقامة المشاريع الحيوية ذات المردودية الكبيرة، وما زالت تلك المواكبة مستمرة حتى اليوم.
وفي سؤال عن دور بلادنا في التقارب العربي - الإفريقي؟
قال فخامته أنه بحكم موقع بلادنا وتاريخها، فقد ظلت تمثل جسر تواصل، وحلقة وصل لا غنى عنها، بين العالم العربي وإفريقيا، وكانت ترجمانا للثقافة العربية الإسلامية إلى إفريقيا، وجسرا لعبور الثقافة الإفريقية إلى العالم العربي، كما أن تنوعنا الديمغرافي، وموقعنا الجغرافي، وتكويننا التاريخي مكننا من لعب هذا
الدور، ومنحنا هذه المكانة ذات القيمة الاستراتيجية، والمردود المعنوي والمادي، التي أكد فخامته حرصه على تعزيزها وترسيخ معانيها بما يخدم المنطقة والعالم.
أما فيما يخص إعادة الروح والنشاط إلى اتحاد المغرب العربي؟
فقال فخامته أنه لا يمكن تصور حجم الكلفة التي تدفعها شعوب المنطقة جراء عدم قيام اتحاد مغاربي قوي وفعال ومتكامل، مؤكدا ادراكه للصعوبات التي تواجه هذا الحلم، وأسفه للعقبات التي تقف في طريقه، مبديا قلقه من عوامل التوتر التي تظهر من حين لآخر، مشيرا إلى أن مواقف بلادنا طالما انصبت في اتجاه دعم استعادة اللحمة بين البلدان المغاربية، متمنيا أن يأتي اليوم الذي تعود فيه اللحمة إلى اتحاد المغرب العربي، ذلك الأمل الذي يعيش عليه كل مواطني هذه المنطقة والمسؤولين فيها، ولا شك أنه سيتحقق يوما ما، بفضل إرادة قادة هذه البلدان، وقدرتهم على تطويق الخلافات، وتحقيق التكامل المنشود، تحقيقا لإرادة الشعوب، وتجسيدا لأحلام الآباء المؤسسين.
ولعل المتتبع للمقابلة يدرك حجم الجهد الذي بُذل ويبذل سبيلا للرقي ببلدنا وإلحاقه بركب الدول المتقدمة في كنف الأمن والأمان.