تعتبر مقاولة الأشغال – لا سيما الكبيرة منها – أمرا حديثا بالنسبة للمقاول الموريتاني.
وذلك لأسباب عديدة، منها أن الدولة وهي صاحبة الطلب في الأشغال العمومية، لم تكن لديها إلى عهد قريب، قدرة تمويلية ذاتية (في إطار الميزانية) لإنجاز المشاريع الكبرى فتلجأ عادة لإقامتها من خلال التمويل الأجنبي.
و لاتفاقيات التمويل الأجنبي شروطها فيما يخص جنسية المقاول ورقم أعماله وحجم تجربته، مما يؤدي غالبا - إذا اعتمدت- إلى عدم تأهل المقاول الموريتاني وإقصائه منذ مرحلة إدراج العروض..حتى بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، يمكن القول بأن الأشغال الكبرى ظلت حكرا على المقاول الأجنبي.
ومما يصعب ولوج ميدان الأشغال الكبيرة على المقاول الموريتاني حاجة هذا النوع من الأشغال إلى استثمارات ضخمة في اقتناء الآليات والمعدات واستجلاب أو تكوين الطاقات البشرية العالية التأهيل، المختلفة المهارات، الكفيلة بإنجاز المشاريع من ألفها إلى يائها.
لذلك اقتصر الرعيل الأول من المقاولين الموريتانيين، الذين يعدون على أصابع اليدين (كأمثالEGB, ECT, SM PEREVET, SOMACOTP ...) على مقاولة الإنشاءات والمباني المتوسطة، وهم الذين تكونوا كشركات إسناد (sous-traitance) للمقاول الأجنبي أوفي إطار شراكة الأشغال معه (co-traitance). وقد تمكن بعضهم من اقتناء بعض الآليات المستعملة التي استصعب على المقاول الأجنبي إعادة نقلها خارج البلد، مما مكنهم من اكتساب قدرة معينة على تنفيذ الأشغال..
ولعل أشد ما أثر في قطاع الأشغال العمومية ومقاولة الأشغال نشأة بالتزامن تقريبا لثلاث مؤسسات شبه عمومية: الوكالة الموريتانية لتنفيذ الأشغال ذات النفع العام (AMEXTIPE) والمؤسسة الوطنية لصيانة الطرق (ENER) وشركة التنظيف والنقل والأشغال والصيانة (ATTM).
ولكل واحدة من هذه المؤسسات حيثيات منشإ خاص بها. فالوكالة مثلا أداة من أدوات إرساء الليبرالية المدعومة من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين من أجل تحفيز و تطوير القطاع الخاص ليحل محل مصالح الدولة لتنفيذ الأشغال.
أما المؤسسة فهي رد فعل الإتحاد الأوربي لتصور وسط بين الدولة (travaux en régie) والخوصصة (travaux à l’entreprise)، إذ أن صيانة الطرق من المهام التي لا يمكن أن تنتظر تطور القطاع الخاص.
لقد كانت شركة ATTM نتاج سياسة التفريع التي انتهجتها الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (SNIM) - الشركة الأم- إذ كان نشاطها في البداية مقصورا على حاجيات الشركة الأم (تنظيف ونقل عبر القطار وأشغال وصيانة).
وإن كانت الشركة يحكمها القانون الخاص إلا أنها أصبحت، منذ السنوات الأولى من هذا القرن، عامل ضغط على الشركات الأجنبية من أجل تخفيض مبالغ العروض ومن ثمة خفض تكلفة المشاريع. كما تمثل أداة إنجاز للأشغال ذات الطابع ألاستعجالي لدى الدولة..في المقابل كان لزاما على الدولة تسهيل ولوجها للمنافسة على الأشغال الكبيرة من خلال خفض الشروط في اتفاقيات التمويل الأجنبي ليتسنى للمقاول الوطني المشاركة في تقديم العروض.
ولقد تعززت مقاولة الأشغال لمقاولين جدد في العشرية الأخيرة، رصدوا مبالغ معتبرة للاستثمار في القطاع كأمثال الموريتانية للأشغال والبناء (MTC) والموريتانية للأشغال الكبرى (GTM بمسماها الجديد).
لكن على الرغم من كثرة الفاعلين في القطاع فإن مقاولة الأشغال لما تنتعش في بلدنا، بل يمكن القول إن أغلب ما ذكرنا من الشركات إما قضت بقضاء مؤسسيها أو أفلست أو وضعت المفاتيح من تحت الباب دون أن نعرف بدقة حالها التجاري. حتى المقاولون الجدد أضحت اليوم بادية عليهم مظاهر التلف والإعياء ...
ما الذي جعل قطاع الأشغال في بلدنا لا ينتج ربحا ولا يولد ثروة ولا يوفر قدرة على التمويل الذاتي (capacité d’autofinancement) لشركات الأشغال؟
أسباب واقع الحال وعوامله عديدة، ومنها ما هو معقد ومركب. ولكن لا يجوز التبسيط برمي اللائمة على السلطات العمومية في التسيير، وإن كانت الدولة هي رب العمل الرئيسي في الأشغال الكبيرة. فمن الإنصاف أن نقول إن إجراءات الصفقات العمومية اتضحت وسارت نحو التبسيط والتسريع. كما أن رقابة الأشغال لم تعد تتسم بتلك البيروقراطية المعهودة و أداء الدولة المالي تحسن كثيرا لاسيما في العقد الأخير، إذ لم تعد المقولة الشهيرة التي مفادها أن "الدولة زبون يوثق به لكنه سيء أداء الدين" لها مغزى يذكر! بل لا نكاد نجد اليوم مقاولا واحدا يشكو من تأخير الدفع لمستحقاته.
أعتقد أن السبب الجوهري في تردي قطاع مقاولات الأشغال ببلدنا، يكمن في عدم فهم متطلبات مقاولة الأشغال فهما صحيحا، فنحن حديثو عهد بالممارسة في الميدان. يقال إن عبقرية الموريتاني في الشعر ولكني شخصيا أراها في التجارة (شعب المليون تاجر!) وليست التجارة كالمقاولة. المقاولة إنشاء والتجارة شراء وبيع.. مقاولة الأشغال من أهم عوامل القيمة المضافة (forte valeur ajoutée) بينما التجارة عديمة القيمة المضافة
(faible valeur ajoutée). وما كل تاجر بمقاول وما كل مقاول بتاجر..
يتجلى الفهم السقيم لدى المقاول الموريتاني في غياب الوعي بعامل الوقت ومن ثمة إهمال المدة الزمنية لتنفيذ الأشغال وعدم احترام آجال التسليم المتعاقد عليها في دفاتر الالتزامات والعقود. ما يهم المقاول الموريتاني هو الفوز بالصفقة العمومية، أما احترام الآجال فتلك بالنسبة له قصة أخرى! كيف لا يفقه المقاول الموريتاني أن ألد أعداء مقاولات الأشغال هو عامل الزمن وأن كل تأخير في تسليم المشروع في آجاله سيؤدي لا محالة إلى ما يلي:
- تفاقم التكاليف الثابتة حتى لو لم تشتغل آلة الإنتاج كالمصاريف العامة لورشات الأشغال (أجور التأطير والإسناد وما يرتبط بها، مصاريف الحراسة والتخزين والكهرباء والماء والاتصال والصيانة العامة...) ومنها أيضا المصاريف العامة للمقر والإدارة العامة للمقاول. ومنها كذلك أعباء الإندثار المحاسبي الذي له وزنه المعتبر في حساب التشغيل (compte d’exploitation) لثقل الاستثمارات عادة لدى مقاول الأشغال.
- ضعف وتيرة تنفيذ الأشغال (rendement) - السبب الرئيسي غالبا في التأخير- ينجر عنه تعاظم التكاليف المتغيرة ومن ثمة تدني مردودية الأشغال بتعاظم حجم المصاريف مع ضعف المحاصيل، مما يتسبب في عجز السيولة. وعندما يكون التأخير بالغا فإن المقاول لن يتدارك الزيادة المضطردة في أسعار المواد بسبب تغيرها في الأسواق من جهة، وعوامل التضخم من جهة أخرى. وهذا ما يفاقم عجز الخزانة لدى المقاول.. ومن الحلول السيئة لجوء المقاول إلى البنوك المحلية لاستدانة الأجل القريب (endettement à court terme) أو ما يسمى بالتسهيلات المصرفية لتلافي العجز المالي إذ أن نسبة الفائدة ورسوم السحب تتراوح ما بين %15 إلى %20 حسب البنوك بينما أكثر المتفائلين من مقاولي الأشغال من يخطط لربح %3 إلى %6 من سعر بيعه، فكيف سيسدد أموال البنوك؟ بل في كثير من الأحيان يصبح مقاول الأشغال شغالا للبنك لا شغالا لنفسه.. وكم من مقاول أضحى فريسة للبنوك التجارية!
- التأخير الغير مبرر في الأشغال يعرض المقاول إلى عقوبات مالية منصوص عليها في دفاتر الالتزامات الخاصة والتي قد تصل إلى خصم حوالي %7 من إرادات الأشغال. فمن طبقت عليه العقوبات، مآله إلى الخسارة.كما أن التأخير المفرط قد يؤدي إلي فسخ العقد وشطب اسم المقاول من لوائح الترشح للمناقصات العمومية (اللائحة السوداء)، كما يضر بالسمعة التجارية وأصول المقاول.
ما أوردناه هنا هو للتدليل على أهمية تسليم المشاريع في آجالها وأنه هو روح مقاولة الأشغال وفقه عامل الزمن فيها. ولا شك أننا نحتاج إلى قومة جماعية حقيقية لتغيير عقلية المقاولين الموريتانيين في هذا الشأن..
كيف نفسر أن ثلاثة مقاولين "وطنيين" تقاسموا 150 كلم كأجزاء من طريق الأمل (أشغال تقوية وتأهيل لا أشغالا جديدة) لم ينجز أحدهم - إلى لحظة كتابة هذه السطور- 10 كلم كاملة بعد ما يقارب ثلاث سنوات من تسلم أوامر انطلاقة الأشغال؟
إذا حدث هذا للمقاطع الأكثر حيوية من طريق الأمل، شريان حياة البلد، وهي اليوم تستغيث ولا أحد يجيب في عجز وذهول جماعيين، فما مصير مشاريع البنية التحتية الأخرى وأين المقاولون الوطنيون الشرفاء؟