ملاحظات على " ملاحظات قصيرة حول  بنياتنا الاجتماعية" / إشيب ولد أباتي

لقد كتب الباحث أحمد محمود عتيق مقالا في موقع " الصدى" بتاريخ 21/12/2021، وذلك  للإشادة بخطاب الرئيس محمد ولد غزواني في مدينة " وادان"، وسيلاحظ  القراء ـ معي ـ طول المسافة، وغياب الخط الواصل بين العنوان، وموضوعه الذي أظهره الكاتب أخيرا ـ في حسن " التخلص" ببيت القصيد ـ وانهى به المقال الجميل، والغني بالإيحاءات، غير أن وحدة الموضوع، تفرض نفسها في البحث المنهجي في المنتج السيوسيولوجي، سيما أن هذا الاختصاص، يعتبر أكثر فروع العلوم الانسانية مناهج بحث، دون التقليل من طرائق البحث في مختلف العلوم الانسانية، وقيمة الاسترشاد بالنظريات  فيها، حسب كل تخصص، ولكن في حدود الاسترشاد الواعي بخصوصيات الظواهر موضوعات الدراسة  في مجالاتها الاجتماعية، كخاصتي التقدم الاجتماعي الغربي، و في مقابله التخلف الاجتماعي في مجتمعاتنا، الأمر يقتضي التعامل مع  تلك العلوم  الغربية استرشادا بها الى حد ما،  دون أن تعمينا إضاءتها الفكرية ـ وكثيرا من الضوء يعمي، كما قال بلزاك، لديكارت بخصوص العقلانية عند الأخير ـ  ولعل الأمر يستدعي منا اتخاذ مسافة  ما، حسب قانون الجاذبية عند العالم الفيزيائي " نيوتن"، لتبقى  معارفنا للمفاهيم، والنظريات ـ باستثناء مناهج البحث الضرورية ـ  في نطاقها، ومقارباتنا في نطاقها المختلف، لأن عدم وضع مسافة ما،  قد يؤدى الى السقوط في جاذبية تلك المفاهيم، وأطرها النظرية، كما أن تجاهلها، أو جهلها يخرج البحث من المعرفة الحداثية، واسقاطه في متاهات التخلف المعرفي..

  بدأ  المقال الأكاديمي بالتذكير بالمفاهيم التي ستوظف، والاحالة الى دلالاتها الحقلية، وهي: الرأسمال الرمزي، وتوظيفه في لعب الأدوار، والرأسمال المادي في مقابل الرمزي السابق دون الربط  بينهما علائقيا، ونمط الانتاج الآسيوي القائم على فرضية الاستبداد السياسي ـ مما سنوضحه لاحقا ـ ، وغياب المساواة الدينية في مجتمعنا باستحضار الحديث الشريف، وتوصيف الواقعة بين أبي ذر الغفاري، وبلال بن رباح رضي الله عنهما ـ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاسطورة الهندية لتفسير البناء الاجتماعي الهرمي المعقد، وتشبيه به البناء الاجتماعي القبلي البسيط في بلادنا، دون ان يتمكن الباحث  من تحديد أوجه الشبه بينهما، وهذا سيطرح عليه أكثر من سؤال مثل، ماذا يقابل  " طبقة الابراهاما" ذات الدين الطبيعي الهندوسي، في مجتمعنا،؟ وماهي الطبقة في مجتمعنا ـ علما أنه مجتمع قبلي، ووصفه بالطبقي، إذا استخدم من السياسيين، فلا مبرر لتوظيفه من طرف الباحث في علم الاجتماع ـ  التي تقابل  طبقة المنبوذين  في الهند، مع غياب تحديد موقعها في سلم البناء الاجتماعي الهندي؟

 ومن يطلع على البحوث الاجتماعية في الهند، يتأكد من عدم تداول " المنبوذين"  في الدراسات الاجتماعية للبناء الاجتماعي، والنظم في المجتمع الهندي، والمقدر ـ الى عهد قريب ـ بمليار واربعمائة مليون نسمة، وفيه أكثر من ديانة طبيعية، وإلاهية: كالاسلام، والمسيحية، واليهودية، وثلاث طبقات اجتماعية : الارستقراطية، والمتوسطة، والعاملة، وقد أضاف الباحث في مقاله إليها طبقتي: الابراهاما، والمنبوذين.!

وذات التقصير في الحديث عن البناء الاجتماعي الهندي، ونظمه، قد نال بالمقص البتارـ " دراعة" ـ هيكل البناء الاجتماعي لمجتمعنا الموريتاني، ونظمه، فلم يعرف الباحث قارئه العربي ـ خارج بيئتنا ـ  بمجتمع المقال، عدا أن الفرد، قد يرفع من قيمته الاجتماعية، أو يحط  منها على أساس " الثقافة الهجينة " ! على حد تعبير الباحث الحصيف، غير أن هذا التحديد  المعياري "القدحي" خاص بالاخلاق في التقييم المعياري، وليس له علاقة بالتقعيد  للسلوك الاجتماعي، أو تنظيمه، فذلك من اختصاص الضبط القانوني في إطار الجزاء، كتقويم ـ وليس تقييم ـ للسلوك لاحقا، علما أن  منظومة القيم الاخلاقية، خارجة عن فروع علم الاجتماع الذي يهتم بالوصف والتحليل، كما القانون  بالمحاسبة على الفعل لأثره، بينما التقييم  هو مبحث في فلسفة الاخلاق.

 وربما كانت هذه  أهم الأفكار عن البناء الاجتماعي في كل من المجتمعين الهندي، والموريتاني في المقال الاجتماعي القصير، لكنه مكثف، وغني بالدلالات البحثية، ولهذا يحتاج الى وقفة لفك رموزه النظرية، وردم الثغرات المفتوحة لتجنيب المقال السوسيولوجي، تطميسه في الزوايا الخلفية، وابعاده عن مكانه الاستحقاقي في الواجهة الأمامية في الكتابة الابداعية، والاستنارة برؤاه الحداثية في علم الاجتماع بنظرياته الحديثة، والمعاصرة التي كانت ـ ولا زالت ـ تعبر عن مواكبة البحث الاجتماعي  للتحولات الاجتماعية الكبرى، والظواهر المصاحبة للتطور، والنمو، والتغيير الاجتماعي، وغيرها من الظواهر في النظم الاجتماعية، والسلوك العام، والخاص للافراد،، وقد نبه علماء الاجتماع العرب  في دراساتهم الى ما أشرت اليه آنفا من جهة التوظيف الواعي للأطر النظرية، والقاموس الاجتماعي في حدود الفهم المستخلص من عدم  قابلتها لتفسير الظواهر في المجتمعات ما قبل التحولات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، ومن هنا كان من المفترض في الباحث الموريتاني، أن يكون مطلعا على الكتابات الاجتماعية الكثيرة الى حد ما، لعلماء الاجتماع في الوطن العربي الذين أثروا البحوث الميدانية، والنظرية، وفي الندوات، وذلك من خلال دراسات رائدة  للظواهر في مجتمعاتنا، وتحديد خواصها، كالتخلف الاجتماعي، والتطور البطيء، ونمو الاقتصاد التبعي، و"ترييف" المدن،  والجماعات القروية، ونظام الأسرة الممتدة" القبيلة، بمعزل عن الدراسات الانتروبولوجية  الغربية سيئة الاهداف، والمرامي، لأن مجتمعاتنا العربية غيربدائية، حتى يدرس  فيها تأثير ـ " الطوطم" العام، و " السحر"، و" شيخ القبيلة" ودوره في القيادة ، و" الاضرحة" ـ على العقل الجمعي..

بينما انصب الاهتمام على موضوعات أخرى  أكثر الحاحا مثل تعليم المرأة، ومحو الأمية  في الفئات المتقدمة عمريا من الجنسين، وتأثير الثقافة الاستهلاكية، والاستهلاك السلعي على نظام الاسرة، وعلى  الوعي العام، والخاص، وغير ذلك من الظواهر التي ميزت  البحوث النظرية، والميدانية بالتفاعل مع الخصوصية الاجتماعية، والحضارية لمجتمعاتنا العربية..

ولعل الحاجة للإطار النظري من أجل توجيه الدراسات الاجتماعية في المجتمعات العربية، اقتضى من الباحثين، الرجوع إلى الفكر الاجتماعي العربي، كنظرية " العصبية" عند ابن خلدون، والأطروحات السياسية العديدة، كالمدينة الفاضلة للفارابي، وكذلك  " الإشارة في تدبير الإمارة" لأبي بكر الحضرمي الذي، كان له  فضل السبق في  تقديم دروس تربوية، وضمنها حلوله السياسية، ولعلها كانت إجرائية لمواجهة القضايا السياسية، والاجتماعية لنظام حكم المرابطين..

إن الرجوع الى الفكر الاجتماعي السياسي عند العرب، اقتضته الضرورة، لأن مواضيع البوث الاجتماعية،  تتعلق بمجتمعاتنا التي تختلف مستويات التطور فيها عن التحولات الاجتماعية  الأوروبية الكبرى بعد الثورات السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والحروب البينية، والحروب الكونية، وأحادية المجتمع الحضري، وتأثير الطفرة في العلوم الانسانية خلال دراسات تلك الابنية الاجتماعية طيلة ثلاثة قرون، وتقدم انظمتها التربوية، والسياسية، والاقتصادية، والتشريعية، والثقافية، والتحقيب الحضاري المشترك..

وبناء على المفارقات الفارقة بين المجتمعات الغربية، والمجتمعات العربية، والأخيرة  في بداية الانتقال من التخلف القروي، الى التمدين، وما تعاني مجتمعاته من افتقاد أواليات التحضر تخطيطا ماديا، وثقافيا،، لذلك  كانت استعارة المفاهيم في علم الاجتماع الغربي ومدلولاتها النظرية في الحقل الاجتماعي، والثقافي، يحيل ضرورة الى مجتمعاتها المختلفة عن مجتمعاتنا العربية،، كالرأسمال الرمزي عند " بيير بورديو" ذلك أن الرأسمال الرمزي، له اكثر من دلالة، غير الدلالة الحرفية، كما وردت في المقال،  وحتى هذه المتعلقة بتوظيف المعرفة في مجتمعات  ما بعد الثروات الثقافية، وارتفاع   حجم الطبقة المتوسطة التي استفادت من معارفها..

 أما في مجتمعنا الذي ترتفع فيه نسبة الأمية الى مستوى مخيف حاليا، و نخبته السياسية التي استقل نظام الحكم على يدها، كان اعلى درجات علمية لدى أفرادها المتميزين  في حدود شهادة " الكفاءة" في القانون التي  خولت للرئيس المختار ولد داداه رحمه تعالى أن يكون  محاميا، ورئيس دولة، واعلى منه  في الدرجة  العلمية  وزير التعليم الذي أخذ شهادته من الجامعة اللبنانية ـ على حد قوله  في برنامج الصفحة الأخيرة ـ  بينما كان معظم الوزراء،  يحمل شهادة الاعدادية، أو الثانوية العامة الى بداية الالفية الثالثة، كوزير خارجية معاوية الأخير.

بينما اصحاب " الثقافة العالمة" من فقهاء، ورجال دين، فلم ينتفعوا ماديا من معارفهم، حتى يوظفوها كرأسمال رمزي، لكن كانت عندهم قيمة اجتماعية التي تختلف عن التوظيف الرأسمال الرمزي، كما اشار اليها المقال في احالته للفكر الاجتماعي المعاصر.

 أما "الرأسمال المادي"، فالباحث، لم يكلف نفسه عناء تفسيره للقارئ، وعلاقته بالتصور الديني المثالي عند " ماكس فيبر" الذي ارجع  ثورة  الرأسمالية الى الاصلاح الديني" البروتستاني" الذي يختلف  بالمرة عنه التفسير الاقتصادي عند " كارل ماركس"، غير أن الاشارة اليهما، إذا كان في إطار الجمع  بين تصرهما النظري، فهو كالجامع في شدقه " الكلى"، و" العجى" معا،،وكذلك الاستعارة العمياء ـ إذا صح التوصيف ـ  لمفهوم "نمط  الانتاج الآسيوي" في الاقتصاد السياسي عند كل من: آدم سميت في" ثورة الأمم"، وهيجل في فلسفة التاريخ" العقل في التاريخ"، وكارل ماركس في " الرأسمال: لنقد الاقتصاد السياسي"، وهي  في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، وهي مقاربات نظرية حول الاقتصادات السابقة  في الحضارات  القديمة في الشرق الأدني، والأقصى، ولم تخل  تلك  المقاربات من اسقاطات  متحزة، تؤكد التنظير الذي شكل دائرة مغلقة في فلك المركزية الأوروبية، وتفسيرهم، أن التحولات الحضارية  في بلاد الشرقين الأدنى، والأقصى،  منذ آلاف السنين ـ هي بالنظر الى ما جرى في اروبا خلال انظمتها في العهد الاغريقي حيث الديمقراطية الأثينية، ثم الاقطاعي  في العصور الوسطى، ثم الأرستقراطي البروجوازي الحديث  ـ جعل من تطور المجتمعات الآسيوية، وحضاراتها العظيمة مستويات دنيا، لاتتجاوز عتبات المآخذ على النظام الاقطاعي الذي حكمه الاستبداد السياسي في العصور الوسطى في أوروبا،، علما أن الدراسين لحضارات الشرق، يقرون بأن النظم الاجتماعية في الشرق القديم،  لم تعرف مرحلة العبودية كما في المجتمع الأثيني، و"القنانة" في الضيعات الاقطاعية.   

لهذا على الباحث السوسيولوجي، أن يدرك أن الجزئية المتعلقة  بنمط الانتاج الآسيوي في مقاله الجميل، تحتاج الى مراجعة، لأن الأخير ليس واقعا اقتصاديا قائما في آسيا الحالية، حتى يعتقد أن "الهند" خرجت منه لدى امتلاكها السلاح النووي، وتركت موريتانيا ترسف في اغلاله ،،!

 وهل هذه المغالطة تقبل من باحث في السوسيولوجيا التي كان علم الاقتصاد واحدا من فروعها، والآن يدرس علم الاجتماع الاقتصادي في معظم الجامعات، ولا زال يدرس، كذلك علم الاقتصاد بفرعيه: الجزئي، والكلي ـ النظريات السياسية ـ  في شعبة علم الاجتماع في كليات الآداب في الجامعات في الوطن العربي..؟!

إن  من مطبات الإحالة الى تلك الدراسات السابقة منذ القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر عن الحضارات في مجتمعات  آسيا، ضمن نظرية " نمط الانتاج الآسيوي" ـ واتباعها من الماركسيين ـ في المقال، تقوم على خلفية  تبني الباحث لنظرية الاستبداد  السياسي المفترضة في نمط  الإنتاج  الآسيوي، والتفسيرالعام،  يفترض نشوء التجمعات السكانية على أطراف الأودية  الزراعية ، ولم تكن مجتمعات رعوية كما عندنا ـ  ولعل تبني الاستبداد السياسي، لم يكن قصد الباحث الذي أشاد ـ مثلي  في مقال سابق ـ بخطاب الرئيس في مدينة " وادان".

وفي الختام، أتمنى ألا تقرأ الملاحظات السابقة على أن فيها انتقاصا من قيمة مقال زميلي، بل سعت ـ الملاحظات ـ  لاظهار قيمته  الفكرية في البحث السوسيولوجي الذي يحتاج اليه الرأي العام  وتوجيه الوعي الوطني، والقومي في موريتانيا.

31. ديسمبر 2021 - 9:48

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا