نبدأ هذه الحلقة بقوله تعالي : {{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}}.
هذه الخصلة يتفق جميع المسلمين أنها أعلي مرتبة يطلب المسلم من الله تحقيقها، وتحقيقها يتفق الجميع أنه لا يمكن إلا باتباع تطبيق ما جاء في القرآن وما صح عنه صلي الله عليه وسلم حرفا بحرف.
وهذا الإتباع أيضا يتفق الجميع أنه لا يحصل إلا بسلوك طريق واحد مستقيم تدور مع أوامر الله ونواهيه الموجهة أو المفسرة بكلام النبي صلي الله عليه وسلم الذي صح عنه حيث دار بمعني أن سلوك الطريق المستقيم يتحقق عند صاحبه، وعند جميع المسلمين عندما يري الفعل مطابقا سلوكه ومفاهيمه وصورته لنصوص الوحيين المعروفين عند المسلم.
ونظرا إلي وضوح هذا الصراط المستقيم عند المسلم الذي يعتقد أن الآمر والناهي واحد والمبلغ هو واحد أيضا، فإني سوف أحاول -مع عجز في كامل الأركان- بإعطاء صورة مبسطة للطريق المستقيم عند الله حسب ما علمني الله وسيعلم القارئ ضآلته، وبجانب ذلك سوف نصف سلوك ما نسمع وما نعرف عن سلوك الطرق الصوفية مقابل سلوك الطريق المستقيم عند الله طبقا لما قلت أعلاه.
ولكن سوف أبدأ بسلوك طرق الصوفية لأنهم جمعوها وحدها عن عموم الدين بل خصصوا لها اتباعا متميزا عن الطريق المستقيم كما يفهم من استقراء توجهاتهم وأركان صوفيتهم.
أولا :فالصوفية لها أركان كما ذكرت في الحلقة أعلاه لا تعقل مادتها بدونها وهذه الأركان أولها هو "مرب" كما يسمونه فذكرا وعبادة أكثر من مجرد الذكر ويسمونها الورد أو الأوراد وكذلك شخص رجل أو امرأة يلتزم للشيخ بأداء هذه الأوراد يسمونه تلميذا، وأبدأ بقليل من التفصيل لأن المسألة طقوس متشعبة لا يفهمها إلا القوم كما هو اصطلاحهم لأنفسهم مع قلة بضاعتي أنا من العلم ولاسيما المتعلق بالصوفية ولكن مقابل ذلك في الجانب الآخر وهو الصراط المستقيم الذي ركز القرآن علي توضيح جميع جوانبه للمسلم سوف أذكر منه أكثر ما نعلم عن الطرق الصوفية والجميع قليل بالنظر إلي معرفتي.
وهنا ذكرت الطريق المستقيم بالإفراد والصوفية بالتعدد كما هو واقع ولوضوحه يعرفه الجميع.
خصائص هذه الأركان :
أولا : خصائص الشيخ ومنها أن يكون انتهي من تربية نفسه أي رباه غيره حتى وصل إلي الهدف الأخير الذي حددوه بالوصول بسبب عبادتهم وهو الوصول إلي الله ولا يمكن تفسير هذا الوصول عن طريق آيات الله وسنة نبيه ولكن عندهم كثيرا من الكلام علي معرفته ولكنها خاصة بهم، أو ورث هذه التربية علي أبيه، ومعنى وصول الإنسان إلي درجة التربية أنه انتهي عند شيخ آخر أي أنه كان قد داوم علي عبادة الله بذلك الورد الذي أعطاه الشيخ وواظب عليه تحت إشراف ذلك الشيخ ليمده كما يقولون بأمداد من عنده يقولون هم أن الله هو الفاعل حقيقة ولكن بكمال اجتهاد هذا التلميذ وعلي رأسها شدة تعظيمه لشيخه حتى يكون كالميت بيد غاسله حسب تعبيرهم يحصل ذلك الإمداد -وقع أو لم يقع- فحقيقة ذلك عند الله لأنه علم غير مكتوب ولا مقروء فهو مفهوم عندهم وكفي، وأثناء ذلك الإمداد يدخل المريد في تحصيل ما يسمونه مراحل الطريق وبالضبط يشبه هذا السلوك النظام المدني والعسكري لأهل الدنيا بالتدرج في الترقي في الوظيفة تبعا لنظافة ملف السلوك المدني أو العسكري بمعني أنها درجات معروفة تسمي حسب تسلسلها بالخواطر أولا ثم المقامات وهي درجات في نفسها ثم الأحوال ثم الوصول إلي الله وهنا يعظم معني هذا الوصول ويصعب تفصيله علي غير أهله.
فمن وصل إلي الله الوصول الذي يسمونه المعرفة ويطلقون عليها معرفة الله ينفصل حال هذا الشخص نهائيا عن بعض حال المسلمين السالكين للطريق المستقيم أي الطريق الوحيد التي أشار إليها النبي صلي الله عليه وسلم في قوله تعالي : {{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}} لأنه أشار إلي شيء محسوس ومفصل بالقراءة وإفهامه لمن يفهمه بنصه الأصلي الموجود أمام المعلم والمتعلم وصاحب الطريق المستقيم يعرف المطلوب منه حسا ملموسا لا معني مفهوما سرا عند أصحابه.
وهنا أقول أن عدم فهم حال ذلك الشخص بعد وصوله أنه أصبح يعرف مصيره الأخروي فمن قال أنه انتهي عنده في نظره جناحي حياة المسلم وهما الخوف والرجاء لم يظلمه ولم يكذب عليه فهو مصرح به في كتبهم ولاسيما قدماؤهم في القرون الماضية، وتارة يصرحون هنا تصريحا لم يسمع اتباع الطريق المستقيم ولو باعتقاده عن ذلك الشخص.
ثانيا: من الخصائص أن الشيخ ينتهي من البحث عن الكسب المادي اعتمادا علي الكسب من الدين لأن من لوازم التلميذ وإن كان غير مصرح بها أن يقدم شيئا يسمي هدية عند حضوره لزيارة شيخ الإمداد الروحي، هذا الإمداد الذي لا يري بالعين المجردة عند غير صاحبه، أما صاحبه فبعضهم يقول أنه يحس به في سلوكه ولكن من أين جاء ذلك الإحساس فطرقه كثيرة كما قال الله :{{ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}}.
من خصائص اعتقاد التلميذ في الشيخ قطعا أنهم لا يخافون عليه في الآخرة مثل ما يخافه كل مسلم علي نفسه أو من مات من أهله ومعارفه وأحسن حال المسلم أن يكون مات وقد عمل صالحا ويرجو فقط رحمة ربه كما قال تعالي :{{إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله}}، مع كل هذه الأعمال المأمور بها يرجون رحمة الله وهذا كلام الله الذي لا تورية فيه ولا استحياء ولا تقصير عن قول الحقيقة كما هي.
ثالثا : من خصائص الشيخ أيضا – وهنا لا أستحي أن أقول أن هذا منكر في الإسلام ولكنه متعلق بالتلميذ وليس بشيخه وهي المناداة للشيخ للنفع والضر.
فهذه الخصوصية أكد الله في كثير من آياته وشدد علي اختصاصه بها وخاطب بها الرسول صلي الله عليه وسلم آمرا له بأن يعلن للناس خصوصية الله بها في قوله : {{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله}} إلي آخر الآية، وجاءت كثير من الآيات القرآنية تنهي عن اعتقاد غيرها وبعض من الآيات يكاد المسلم يفقد توازنه عند سماع طنين شعورها في قلبه، ومنها قوله تعالي : {{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين}}، وبعد ذكر هذه الخصوصية التي علي جميع المسلمين أن يتفقوا أنها منكر من القول ألا وهي معرفة أي إنسان بأي وسيلة ما يحدث له بعد كل لحظة من لحظاته.
والآن أًصل إلي الركن الثاني والثالث الورد والتلميذ ليكونا في مقال واحد لترابطهما وسيكون معهما إن شاء الله الكلام علي فصل الشريعة الظاهرة عن الباطنة وعلم الشريعة عن علم الحقيقة إلي آخره، وأقول قبل ذلك : {{رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي}}.
وإلي الحلقة القادمة : كيف نفهم الإسلام (10) الصوفية (6) بإذن الله تعالي.