في ظل جو ضبابه سميك ويتكاثف باستمرار نستحضر الحاجة الملحة لاستطلاع المناخ السياسي والوضع العام للبلد ، ويخطر في بالنا ألف سؤال وسؤال عن حالنا ورهاناتنا الموضوعية ، أو تلك الموغلة في الطوباوية السابحة في بحار الأمل الذي تجري رياحه أحيانا أو غالبا بما لا تشتهي السفن.
سكان ربوعنا وصحارينا من أجدادنا القدماء لم يألفوا الضباب لكنهم ألفوا السراب ، وتعودوا على أنه يلوح ويتراءى لهم في القفار والمهامه يتراقص كماجنات الجن على شكل .. ماء .. أو جبل .. أو قطيع.. أو واحة غناء.
هذا الوهم البصري الذي يحدث بسبب تفاوت درجة حرارة طبقات الهواء ، والانحناء في مسار الضوء خبروه كثيرا ولم يعد يلفت انتباه العطشى ممن استبد بهم الظمأ ، ولا الباحثين عن ضوال المواشي ، غير أن معرفتنا عن كثب للضباب كانت حديثة نسبيا ، حيث تنبهنا منذ سبعة عقود فقط لأهمية الشواطئ بسبب الغزاة البيض القادمين من وراء البحار فكانت تلك بداية الألفة شبه الحميمة مع البحر والضباب .
إذا كان التفاؤل في ظروف صعبة وواقع قاس يكاد يكون وقاحة ، فإن اليأس والحزن والتثبيط لن يوصلا إلى بر النجاح ، فضلا عن أن ذوي الإرادة القوية يكرهون الوقوف كثيرا عند شطآن اليأس رغم أنها تبدو أحيانا ساحرة قاهره ، والذين يرتادونها يدمنون في النهاية اللا مبالاة المغرية حقا ، كان شكسبير يقول "قلب لا يبالي يعيش طويلا".
ربما يكون خلاصنا من أنانية حزننا ويأسنا في مقولة جبران خليل جبران : "الأم هي كل شيء في هذه الحياة هي التعزية في الحزن ، الرجاء في اليأس والقوة في الضعف" ، لكن من يخلصنا من حزننا الجمعوي وهمنا العام ؟.
لقد شابت نواصي وهامات ، وطالت واستطالت وتربعت صلعات عديدة ومات عشاق كثر لهذه المحبوبة الساحرة المسماة موريتانيا دون أن يروا جل أحلامهم تتحقق ، واللاحقون أخشى أن يرددوا غدا مع الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي المقولة التالية "تراني أنا الذي أدخل الشيخوخة .. أم ترى الوطن بأكمله هو الذي دخل سن اليأس الجماعي؟"
تلك مقدمة خجولة بين يدي القارئ الكريم قد يكون سببها التهيب والتردد من الدخول مباشرة في صلب الموضوع ؛ أي محاولة قراءة جزء من ملامح واقعنا السياسي والمعيشي وأوجاعنا ، لكن هل الأمر حقا بتلك السهولة يا ترى؟
أم أننا اليوم بتنا بحاجة ماسة إلى إسناد هذه المهمة الجسيمة ـ تحت إكراه الرغبة في الحصول على نتيجة شبه يقينية أو منطقية على الأقل ـ لضاربات الرمل ، والطوارق بالحصى ، وزاجرات الطير ، وقارئات الأكف والفناجين؟
هذه المهمة قبل عام من الآن لم تكن عصية إن لم نقل سهلة حيث كان الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل رحمه الله بين ظهرانينا ، لكنها في ظل غيابه أشبه بحفر نفق بالأكف تحت "كدية إجل" بولاية تيرس ، أو تحت "أشتف" بولاية تكانت .
لقد كان يحظيه يفك طلاسم المشهد السياسي ويقرأ واقع الناس وطموحهم وما في خلجات صدورهم وآلامهم ويتنبأ بالمستقبل ، بل أكاد أجزم أنه كان قادرا على قراءة طالعنا بسعده ونحسه ، وسنظل بعده جميعا في محاولة استنطاق المشهد وإدراك كنه الواقع نتخبط فحسب ، أو في أحسن الأحوال نحوم حول الحقائق عن بعد فحسب كمجوسي يطوف بالنار المقدسة ، لكن لا مناص من المحاولة رغم كل ذلك.
لقد دخلت مأمورية الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني في نصفها الأخير ، وطبع النصف الأول الكثير من التبصر في التعاطي مع مكونات الطيف السياسي ، لقد تابعنا باندهاش معارضين قدامى صعيبي المراس يخرجون من بوابات القصر بنبرة جديدة وتفاؤل عارم وبخطابات مغايرة تماما لما ألفناه نحن وتعودوه هم في السابق.
إن جو التهدئة والانفتاح يبعث على التفاؤل والأمل ، ويجعل السلطة القائمة تعمل على تنفيذ برامجها وسياساتها بعيدا عن الاكراهات والضغوط والصدامات ، والسخط الدائم من متصيدي الأخطاء والهنات والعثرات.
كان وينستون تشرشل يقول "إن الجهد المتواصل وليس الذكاء أو القوة هو مفتاح إطلاق قدراتنا الكامنة" ، إن أكبر آفة واجهت الأنظمة الموريتانية المتعاقبة هي الركون للأعوان ، والإصغاء للمديح والإطراء ، ومحاولة أخذ استراحة محارب ، إن تيار الأحداث والمشاكل والعراقيل متشابك كعربات قطار سريع ، وأي خلل أو عطل لا يمكن أن يمر بسلام دون أن يترك تأثيرا على المنظومة بأكملها.
سيدي الرئيس
إن المواطن البسيط اليوم في المدن والأرياف يرزح تحت متتالية هندسية من المشاكل والضغوط والصعوبات المعيشية لا قبل له بها ، لقد وصل غلاء الأسعار حدا لا يطاق .
إن أخطر آفة تواجه المواطن في عصر اليوم هي شبح الجوع والفقر ، وما ينجم عنهما من مآسي التطرف والجنوح أو الهيجان والثورة ، غني عن القول أن الثورة أضحت اليوم مع الأسف مرادفة للتخريب والتدمير وضياع الأوطان.
إن أنين الجوعى وهموم البسطاء في عصرنا موسيقى نشاز لا أحد يريد سماعها ، ومشاكلهم فضول وترف لا أحد يملك دقيقة للإصغاء إليها ، غير أن أصحاب الضمائر الحية ، والمشدودون إلى أبواب السماء بعناية إلهية وبصيرة ربانية يتحسسون هذه المشاكل ، ويتلمسون مظانها ، ويحدقون في وجوههم كما تحدق الأم في عيني رضيعها لتظمئن على حالته ولتستلهم أوجاعه واحتياجاته .
يبدو ذلك طوباويا حقا إن قلوب الأمهات كما يقال هوة عميقة ستجد المغفرة والرحمة دائما في قاعها ، وهي قلب الحياة الأبيض الذي لاتغير لونه الأيام ، لنحدق إذن في وجوه البسطاء كما يحدق الطبيب الشفوق في وجه مريضه المصاب بالتوحد.
إن مباشرة المؤسسة الجديدة التي ستخلف "سونيمكس" لعملها على وجه الاستعجال أمر في غاية الضرورة الملحة ، فضلا عن مواصلة كافة مشاريع الدعم وتكثيفها ، وإطلاق خطة استعجالية جدية وجادة وفعالة لإنقاذ مخزون الثروة الحيوانية الذي يرزح تحت وطأة الجفاف منذ شهر على الأقل ، خاصة في ظل الأوضاع المستجدة في الجارة مالي التي لا تبعث على الإرتياح ، حيث الفوضى ولعبة تكسير العظام الدولية التي هي في ذروتها اليوم بعد دخول مرتزقة "فاغنر" على الخط والمعارضة الغربية الصريحة لذلك ، وما يمكن أن يكون لكل ذلك من تبعات.
باختصار لن تكون مراعي جارتنا مالي متاحة أو آمنة لمنمينا لبعض الوقت على ما يبدو.
سيدي الرئيس
إن عدم شعور الموظف البسيط بالواجب وعدم خشيته من المساءلة والعقاب أديا إلى واقع مزر في الإدارة منذ زهاء أربعة عقود حتى بات حالنا شبيها بوصف الأديب الكبير نجيب محفوظ "إننا نستنشق الفساد مع الهواء فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع امل حقيقي؟"
إن المواطن البسيط ليتوق حقا لرؤية صرامة الدولة وخشونة قبضتها في محاسبة الفاسدين ولصوص المال العام ، وأكاد أجزم أن قضية ميناء الصيد التقليدي في نواذيبو مؤخرا حركت مشاعر الناس وجعلتهم يتوقون لرؤية المزيد ، رغم أن معالمها لم تتضح بعد.
إن تفكيك شبكات الفساد والنهب المنظم يمكن أن يمكن الدولة من بناء شبكة متكاملة للصرف الصحي وإنقاذ كافة أحياء مدينة نواكشوط بأكملها من البرك والمستنقعات ، وزحمة الطرق ، أمر مغر حقا .
سيدي الرئيس
أدرك يقينا أن التحديات التي واجهتكم ليست يسيرة حقا ، ولكن التحديات ركن ثابت في معادلة الحكم ، وسيكون الحكم عليكم للتاريخ بمدى صمودكم وفاعليتكم في التعاطي مع الأزمات التليدة والمستجدة ، فضلا عن طريقة تعاطيكم بحزم مع مربعنا الذهبي : التعليم ، القضاء ، حسن اختيار الطواقم ، محاربة الفساد.
وفقكم الله وسدد خطاكم
وحفظ موريتانيا وشعبها