على الرغم من بساطة، وسهولة،، ويسر، ووجاهة، ونجاعة، وفعالية، ومرد ودية الإجراءات الاحترازية من كوفيد 19، إلا أنها لاتزال عصية البلوغ، مستعصية الولوج، وبعيدة المنال بالنسبة للسواد الأعظم من الناس، حيث يلاحظ تراجع مقلق في درجات الإقبال عليها، والتقيد بها، والأخذ بمقتضياتها، والتكيف مع متطلباتها، والخضوع لإكراهاتها. وذلك ما يشكل تحديا حقيقيا على ضوء دخول البلاد في الموجة الثالثة من هذا الفيروس، والتي توصف بالتعقيد والشراسة وسرعة الانتشار . والواقع أن كافة المجتمعات البشرية تتماهى في الاكتواء بنار هذا الفيروس ، رغم تفاوتها في حجم الإصابات والوفيات، ومبلغ التفشي ودرجة الانتشار، كما تتقاطع في الخوف والقلق والتوجس والهلع من مسار التطور، ومآل الآثار والانعكاسات، من منطلق الوعي بحدة الخطورة، وقوة الفتك، وصعوبة الاحتواء.
1ـ ارتداء الكمامة: تعتبر الكمامة من أبرز وأهم وأوكد الوسائل الوقائية والإجراءات الاحترازية المعتمدة عبر المعمورة للحماية من الإصابة بكوفيد 19، والحد من انتشاره وتفشيه. والواقع أن الكمامة أثبتت كفاءتها ونجا عتها الفائقة، انطلاقا من أن الرذاذ المنبعث من الفم والأنف يعتبر من أهم مصادر انتقال الفيروس، مما جعلها تشكل وقاية عملية، وصمام أمان معتبر بالنسبة للأفراد والجماعات عند الاتصال الفيزيقي المباشر. وذلك مادعى السلطات إلى إلزام كافة المواطنين بارتدائها وجوبا، عند ولوج الأماكن والفضاءات العمومية، كالأسواق والمستشفيات ووسائل النقل، وغيرها مما على شاكلتها. والحقيقة أن ارتداء الكمامة اليوم، وفي هذه الظروف الاستثنائية، يعتبر سلوكا مدنيا وحضاريا بامتياز، ويعكس مستوى الوعي وروح المواطنة والمسؤولية.
وعلى الرغم من يسر وسهولة استعمال الكمامة، مع ما تحققه من نتيجة عظمى وفائدة قصوى فيما يتعلق بوقاية الذات وحماية الغير من عدوى هذا الفيروس الفتاك، فإن السواد العظم من الناس يجد صعوبة بالغة ومشقة بليغة في ارتدائها ، والذين تجاوزوا تلك العتبة يعاني بعضهم من العجز عن الاستمرار والديمومة ، في حين يعتري بعض من نالوا فضل المواظبة سوء الاستخدام. فنجد البعض يعفي نفسه من عناء التقيد باستخدامها الصحيح، وكأنها ديكور مظهري لا أقل ولا أكثر. والبعض الآخر لازال وفيا لكمامة عاصرت الموجتين، الأولى والثانية، ولازالت صامدة لعبور الثالثة، ومتوهجة وجاهزة لمكابدة الرابعة، إن هي حصلت لا قدر الله.
وعلى كل حال ينبغي علينا جميعا أن نعود أنفسنا على الارتداء السليم الصحيح ، النسقي والمنتظم للكمامة، أو ما ينوب عنها، عند كل خروج من البيت أو رجوع إليه، سواء كانت الوجهة المساجد للتعبد، أو المؤسسات التربوية والأكاديمية للتعلم والتعليم،أو المستشفيات والمراكز الصحية للاستشفاء، أو الأسواق للتسوق، أو المحلات التجارية، بما فيها حانوت حيز السكن، للتبضع، أو ولوج عربات النقل للتنقل، أو البيوت لصلة الأرحام، أو غير ذلك من الأنشطة الحياتية اليومية الروتينية.
2ـ التباعد الاجتماعي: على الرغم من أن الإنسان "حيوان سياسي" وفقا للمنطق الأرسطي، وكائن مدني بالتعبير الخلدوني، أو بعبارة أخرى اجتماعي بالطبع، الأمر الذي يجعله ميالا للاجتماع البشري والألفة والصحبة والاتصال والتواصل الاجتماعي والتفاعل الفيزيقي المباشر، الذي يترتب علية بالضرورة التقارب الاجتماعي، فإن الظروف الاستثنائية التي تعيشها المعمورة اليوم، بفعل تأثير واكراهات وانعكاسات الموجة الثالثة من كوفيد 19 تجعل تعديلا ذلك السلوك الاجتماعي الطبيعي، التلقائي،والنسقي أمرا مطلوبا، وحاجة ملحة، ومبتغى مشروعا، يحتم على الجميع الالتزام به، والتقيد الصارم والمطلق بحيثياته ومتطلباته.
إن التباعد الاجتماعي أضحى اليوم يتصدر مستلزمات وضرورات التواصل البشري الفيزيقي المباشر في الفضاءات العمومية والخصوصية، من منطلق دوره الفاعل والحاسم في الحماية من الإصابة بهذا الفيروس الفتاك، ومن ثمة المساهمة العملية والفعالة من الحد من انتشاره وتفشيه في المجتمع. إن المطلع على حجم الإصابات بهذا الفيروس بفعل المخالطة الاجتماعية والتقارب الاجتماعي يدرك بجلاء ووضوح مدى خطورة التقارب الاجتماعي، وضرورة وإلحاح ،بالمقابل، التباعد الاجتماعي.
ونظرا لطبيعة مجتمعنا وخصوصيته الثقافية، المتمثلة في بعض جوانبها، في طغيان الانسيابية المفرطة في العلاقات الاجتماعية والتواصل والتفاعل الفيزيقي المباشر، يجعل من الضرورة بمكان العمل بجد ومثابرة على رفع مستوى الوعي لدى السواد الأعظم من مواطنينا بأهمية وأولوية وإلحاح التقيد الحازم والصارم والمستديم بالتباعد الاجتماعي، عند ضرورة الاجتماع والالتقاء، حتى ولو كان ذلك بهدف صلة الأرحام. على أن لاتقل وجوبا مسافة ذلك التباعد عن متر، والأولى أن تزيد على ذلك، ولو قليلا. وعلى كل حال لامناص من العمل على تغيير سلوكنا الاجتماعي وتعويد أنفسنا على التباعد الاجتماعي، من منطلق أن ذلك يساهم بشكل فعلي وحيوي في حماية أنفسنا ، وإنقاذ أرواح إخواننا وذوينا وأحبتنا، وصون الأمن الاجتماعي بمجتمعنا.
3ـ الغسل المنتظم لليدين بالماء والصابون: تعتبر اليد من أكثر أعضاء الجسم تعرضا للفيروس، وأكثرها نقلا له من شخص لآخر بفعل ملامستها التلقائية النسقية، الحتمية أوالعرضية، لمختلف الأشياء، من أسطح وأبواب ونوافذ من جهة، ولاستخدامها الحصري، في الغالب الأعم، لغرض التحية والسلام من خلال المصافحة، والتي هي اتصال فيزيقي مباشر مع الغير يتكرر بانتظام بتعدد من نلتقي بهم ونتفاعل معهم. ونظرا لاحتمال التقاط الفيروس أو نقله، من أو إلى، الأشخاص أو الأشياء أو الحيوان بفعل الاستخدامات المختلفة والمتعددة لليد، أصبح من الضروري والملح غسلها العميق بالماء والصابون، أو ما يقوم مقامهما من وسائل التعقيم، لتنظيفها وتطهيرها من الفيروس، حماية ذاتية لصاحبها من نقله إلى جسمه، من خلال ملامسة الفم أو الأنف أو العينين، أو للغير بواسطة المصافحة والملامسة البدنية المباشرة.
وعلى الرغم من بساطة وسهولة هذا الإجراء وأهميته وحيويته، حماية ووقاية، للذات وللغير من هذا الفيروس الفتاك، فإن الكثير من الناس يجد صعوبة بالغة في التقيد به من جهة، واستخدامه وفقا لضوابطه وشروطه الصحيحة من جهة أخرى.ونظرا لخطورة الموجة الثالثة التي نواجهها، فإنه من الضروري تكثيف جهود التوعية والتعبئة والتحسيس لتعويد الجميع على غسل الأيدي بالماء والصابون بشكل مستديم وانسيابيي، سبيلا لأن يصبح سلوكا طبيعيا وتلقائيا.
4ـ أخذ اللقاح: لامراء فيما تمثله الموجة الثالثة من كوفيد 19 من خطر محدق، ورغم حدة وجسامة التداعيات يبقى الأمل بحول الله وقوته وفضله وجوده وكرمه وتوفيقه في اللقاح الذي أثبت نجاعته في الحماية والوقاية من جهة، والحد من وطأة آثار ومضاعفات الإصابة، إن هي وقعت من جهة أخرى. ونظرا لما لوحظ من ضعف في الإقبال على هذا اللقاح ببلادنا ، رغم توفره بكل المستشفيات والمراكز الصحية على عموم التراب الوطني، مجانا ومن دون أدنى تكاليف، وبيسر وسلاسة، فإنه يكون من اللزوم علينا جميعا، من منظور شرعي وأدبي ووطني، أن ننشط بجد ومثابرة وحزم وعزم وحيوية للدفع بأحبتنا من أهلنا وذوينا ومعارفنا وجيراننا، وعامة مواطنينا، للتوجه الفوري لمراكز التلقيح للاستفادة القصوى من هذا اللقاح الثمين.
إن من يمتنعون عن أخذ اللقاح يعرضون أنفسهم وذويهم وغيرهم لخطر بالغ ومحقق، وهو مالا يجوز شرعا ولا ينبغي عقلا أو منطقا. ووعيا من السلطات العليا بالبلد بأهمية هذا اللقاح عمدت إلى تنظيم حملتين وطنيتين شاملتين للدفع بالمواطنين للإقبال عليه بكثافة سعيا لرفع معدل التلقيح في صفوفهم بوصفه السبيل الأمثل لكبح استشراء الجائحة والحد من آثارها ومخلفاتها.
5ـ الحظر الجزئي للتجول: لقد ترتب على التزايد المقلق في عدد الإصابات بكوفيد 19، والارتفاع المحزن في عدد الوفيات اتخاذ السلطات لقرار بحظر جزئي للتجول يبدأ من الساعة الثامنة مساء وينتهي عند الساعة السادسة صباحا. والحقيقة أن هذا الحظر الجزئي للتجول لم يأتي اعتباطا ولا ترفا، وإنما حتمته المعطيات الميدانية الجديدة ذات الصلة بالموجة الثالثة من هذا الفيروس. ذلك أن تصاعد وتيرة الإصابات عموما، والحالات الحرجة منها على وجه الخصوص، يشكل تحديا حقيقيا بالنسبة لمنظومتنا الصحية وضغطا هائلا عليها، ناهيك عن الازدياد المؤلم في الخسائر البشرية.
والحقيقة أن هذه الوضعية الإشكالية إذا ما ظلت متواصلة بهذه الوتيرة لتصل ، لاقدر الله، حد تجاوز القدرة الاستيعابية لمنشآتنا الصحية، فإن ذلك سيجعل البلاد تدخل منعطفا حساسا وخطيرا لا يمكن التنبؤ بما سيترتب عليه من أذى وينجر عنه من ضرر. إن الوعي بأهمية وضرورة الحظر الجزئي للتجول ، نظرا لما ينتظر ويتوقع منه من تراجع في عدد الإصابات، وانحسار في معدل الحالات الحرجة، وتقهقر أو انتفاء لحالات الوفيات، ينبغي أن يشكل حافزا قويا ودافعا متينا لاحترامه، والتقيد بمستلزماته، والتكيف مع إكراهاته، والخضوع لضروراته وأحكامه، والمساهمة الجادة والواعية والمسؤولة في الدفع بالغير لفهم فلسفته، واستيعاب أبعاده ومراميه، وتقدير نتائجه ومآلاته، وتثمين جهد وتضحيات القائمين عليه والفاعلين به. ويتطلب ذلك التكيف ترقية إدارة وقتنا، وإعادة ترتيب أولويات قضائنا لحوائجنا لضمان عودة النشطين منا للبيوت والمكوث بها قبل أوان توقيت حظر التجول تفاديا للإخلال به، أو إرباك و إحراج السلطات الأمنية المشرفة عليه.
6ـ الحد من الزيارات الاجتماعية وولوج الفضاءات ذات الكثافة البشرية: إذا كانت الزيارات الاجتماعية للأهل والأقارب والأصدقاء والجيران مقبولة مستحسنة، بل مطلوبة ومرغوبة وواجبة، أحيانا، نظرا لما تجسده من صلة الأرحام، وتعزيز أواصر المحبة والمودة والإخاء، وتقوية النسيج الاجتماعي والمجتمعي، وترقية الوئام والتعاضد والتناغم والانسجام، فإنها بفعل الظروف الخاصة والاستثنائية الناجمة عن الموجة الثالثة الشرسة من كوفيد 19 تتنزل في سياق الاستهجان والرفض، بل والمنع في أغلب الأحيان، إلا ما كان للضرورة القصوى. وذلك بالنظر لما ينجر عن الاتصال الفيزيقي المباشر من انتقال واسع لعدوى هذا الفيروس الفتاك.
ومادام ما يتوقع في الأصل، وينتظر في الأساس من خير وفائدة، ونفع ومسرة وفضل من تلك الزيارات الاجتماعية سينتقل في هذا السياق إلى الضد، ضررا وأذى وأسى، فالأولى النأي والامتناع عنها، وتجنبها في كل الأحوال. إلا ما كان منها ضروريا حتميا لامناص منه، وعندها يلزم اتخاذ كافة أسباب الحيطة والحذر ذات الصلة بالإجراءات الاحترازية والترتيبات الوقائية، خاصة ما يتعلق منها بارتداء الكمامة، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين بالماء والصابون.
ولا شك أن التوافد الجماعي لحضور الحفلات والمناسبات والتظاهرات والزيارات، والتجمع في البيوت والمحلات التجارية غير الضروري، في هذه الآونة يعتبر سلوكا متخلفا ، لامدنيا ولاحضاريا، ومظهرا مخلا ومربكا ينم عن الجهل، أو ضعف مستوى الوعي المدني والاجتماعي، والاستهتار وانعدام المسؤولية، خاصة وأن هناك بدائل مدنية، حضارية وعملية ويسيرة، سريعة وناجعة وفعالة تتمثل في استخدام وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي.
إن المفارقة العجيبة مابين يسر وتيسر أسباب الأخذ بالإجراءات الاحترازية والترتيبات الوقائية من كوفيد 19، وصعوبة واستعصاء وتعذر تعاطيها ببلادنا، يجسد بوضوح وجلاء كنه وعمق ولب التحديات الحقيقية التي نواجهها في إطار التصدي للموجة الثالثة من هذا الفيروس العالمي غير المسبوق في تاريخ البشرية. ولا شك أن إزاحة هذه المفارقة، وتعديل هذا الخلل، وتصويب ذلك الاختلال يمثل المعادلة الصعبة لرفع هذه التحديات، التي هي المدخل الحاسم والطريق السالك لتجنيب البلاد الخطر والشر والضرر. ولبلوغ ذلك لابد من الدفع بكافة فاعلينا وقوانا الحية لتكثيف الجهود وتكاملها والانخراط بديناميكية وفاعلية في الجهود الوطنية الساعية لتحقيق التفاعل البناء، والتجاوب الخلاق، الشامل والمطلق مع هذه الإجراءات الاحترازية والترتيبات الوقائية. ولنتوجه جميعا، بشكل فردي وجماعي لأخذ اللقاح بكل ثقة وأمل ، ولنتقيد جميعا بالإجراءات الاحترازية بكل حيوية وانسيابية لنحمي أنفسنا وكافة مجتمعنا من بأس وشر هذه الموجة الثالثة من هذه الجائحة العالمية الفتاكة.
وعلى العموم علينا جميعا أن ندرك حجم المسؤولية التي تقع على كواهلنا فيما يتعلق بالحرص على سلامة شعبنا، وتجنيب أمهاتنا وآبائنا، وأبنائنا وبناتنا وإخواننا وعموم ذوينا، وكافة مواطنينا خطر هذا الوباء، والتي هي في الأساس شخصية وفردية، وفي الجوهر جماعية، اجتماعية ومجتمعية. كما ينبغي أن ندرك بجلاء ووعي وبصيرة أن إسناد، ودعم، ومؤازرة، وتثمين، وتشجيع المجهود الوطني في أوقات الشدة، ومواطن المحن، وأوان الأزمات يعتبر عملا وطنيا بناء، وسلوكا مدنيا وحضاريا خلاقا ينبغي للجميع الحرص على تبنيه، و التحلي به، والالتحام الفعلي والحيوي بديناميكيته.
---------------------------------------------------
أستاذ علم الاجتماع بجامعة العلوم الإسلامية بالعيون