في الآونة الأخيرة تداول ناشطون مقطعاً على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه تلميذ؛ وهو يتحدى أستاذه داخل الفصل؛ بأساليب جمعت بين التهديد بالضرب وعبارات جارحة.
الأستاذ المسكين تمالك نفسه بحكم ظروفه الصعبة؛ فلا يمكنه أن يجازف بلقمة عيشه في ظل الارتفاع الصاروخي للأسعار .
والحق أن المدرسين يواجهون منذ العام 2000 تحديات جمة؛ لعل أبزها ترتيبهم الممنهج ضمن أسفل السلم الاجتماعي؛ بحكم شيوع ثقافة "التركاع" و"التملاح"؛ التي تطورت لتُنتج ما يسميه الشباب اليوم بظاهرة "لبرود"/cool؛ القائمة على احتقار العلم وأهله؛ وحرق المراحل بأساليب خارجة عن المألوف في معظمها.
ربما لايدرك المراهقون المشاغبون ومن يسير في فلكهم من الغوغاء؛ أن الأستاذ أمضى أكثر من عقد ونصف من عمره في الدراسة؛ كي يحصل على شهادة الكفاءة من المدرسة العليا للتعليم؛ والأمرذاته ينطبق على المعلمين خريجي المدارس الوطنية للمعلمين sortants des ENIs.
هذه الفترة على ماشابها من معاناة؛ لا تعني شيئا في قاموس التلاميذ وحاضنتهم الاجتماعية؛ التي تُقوم الفرد على أساس ثروته؛ بغض النظر عن مصادرها.
كان من الطبيعي في ظل وضع هكذا أن تتهاوى كل القيم الممجدة للمدرس؛ وتتلاشى تلك الأساطير "الخرافية" القائمة على تقديسه؛ باعتباره النبراس الذي يُضيئ طريقة الأمم.
فجأة وجد المدرس نفسه في الهاوية؛ حاول جاهداً أن يُعيد الاعتبار لشخصه من خلال معايير منتهبة الصلاحية بالنسبة للمجتمع؛ لم يكن يعي؛ بحكم التطور الهائل للتفاهة وأخواتها؛ أنه يواجه عاصفة هوجاء ناتجة عن الضغط المرتفع لشيوع مسلكيات مبنية على ازدراء كل ماله علاقة بالمعرفة.
الكارثة أن القصص التي تتداولها الأجيال ساهمت بدورها في التقليل من شأن المدرس؛ ولعل أبرز مثال على ذلك؛ قصة الملحقة الإدراية؛ التي استقالت من المدرسة الوطنية للإدارة حين أخبروها بأن المعلم يتقاضى راتباً أكبر من راتبها؛ قالت مستغربة: " المعلم أعلى مني راتبا.! كيف لأحد يقرأ سنتين ليكون بئيسا لهذه الدرجة؟ ..إذن فلتعتتبرونني مستقيلة من الآن..!"
تمثل هذه القصة جانباً يسيرا من السرديات المُكرسة لاحتقار ممتهني التعليم في هذا الحيز الجغرافي الذي يبدو أن ساكتنه بصدد حذف الفضيلة من كل قواميسهم المستخدمة..
أثبتت الدراسات المهتمة بمشاكل المدرسين في موريتانيا؛ أن هذا الوضع الصعب ساهم في جعل العديد منهم يمتهنون مهنة المتاعب"الصحافة" التي وجدوا فيها الملاذ الأفضل الإخفاء مُساهم الوظفي الذي صار بالغلبة علما على البؤس وكل دلالاته؛ بينما فضل آخرون ممارسة التجارة.
نقابات المدرسين أكدت في بيانات سابقة أن الوضع أصبح عصي على التحمل؛ فالكثير من حملة الطباشير لم يعد بوسعهم أداء المهمة المسنودة لهم نتيجة أوضاعهم المزرية.
صحيح أن النظام الحالي ضاعف علاوات المعلمين بنسب كبيرة؛ مقارنة بأتظمة سابقة؛لكن حرمانهم من بعض الامتيازات المهمة التي يحصل عليها نظراءهم في الدول المجاورة؛ كقروض السكن والسيارة...؛ ضاعف من أعبائهم في ظل نسب الفوائد المرتفعة التي تفرضها البنوك على قروض لا تتجاول سنتين في أحسن الأحوال.
ينضاف إلى كل هذه العوامل كون المدرسة العمومية أصبحت وكراً لترويج المخدرات؛ الأمر الذي عرض حياة المدرسين فيها لمخاطر جدية.
لقد تضافرت عوامل عديدة ومتنوعة لشطب المدرس من قائمة علية القوم؛ بعضها متعلق بالتحولات الكبرى التي شهدها المجتمع؛ والبعض الآخر ناتج عن غياب رؤية واضحة لأصحاب القرار في التعامل مع التحدبات التي تهدد عملية صناعة الأجيال؛ ما جعل المدارس بيئة طاردة في بلد تطوره رهين بمهنة باتت مهددةً بالإنقراض بحكم إزدراء أصحابها من قبل التلاميذ وأولياء أمورهم وحتى من بعض الوزارات السيادية .