إذا كانت الاضطرابات النفسية منُتشرة بشكل كبير حيث أنها تتجاوز 20% بين عامة الناس بحسب المعلومات التي أُصدرتها منظمة الصحة العالمية، فإن نسبة المعاناة لدى أفراد الشعب الموريتاني في مجمله من أزمات نفسية خانقة تفوق لوحدها هذه النسبة، الأمر الذي يجعل رصد أوجه هذه المعاناة و مكامن تجلياتها و خلخلاتها لا يكلف كبير عناء.
و ليس شارع الحياة في كل يوم تبزغ شمسه من رحم هموم الظلام إلا مسرحا لاضطراباته التي بالكاد يغطيها سعيه الحركي الحتمي المحموم في وجه صروف دهر تطحنه طحنا و هو يتلمس على غير هدى طريقا سالكا إلى توازن يحسه مفقودا في ظل غياب تام لأية خبرات أو سياسات تهتم بهذا الجانب. و في ظل هذا الوضع الخطير فإن هذا المجتمع الموريتاني بتركيبته المعقدة و تخلفه المزمن عن ركب عالم يعيش من حوله تطورا هائلا، يفتقر إلى تأطير و توجيه من نخبتيه السياسية و المثقفة اللتين يعود سبب تخلفهما عن هذا الدور المحوري إلى اضطراب ذات الوضع النفسي لدى قادة و زعامتهما.
و لا شك أن ساحة المعترك تحمل من بصمات هذا الوضع النفسي المضطرب ما يغني عن أي كلام في الموضوع. فلا البرامج و لا العمل الميداني و لا الخطاب السياسي و لا الفلسفة النضالية لدى كل القوى السياسية بكل اتجاهاتها الفكرية و العقدية تهتم بهذا الجانب بأية صورة كان ذلك و لا بشكل لأي عمل يصب في مضمونه. و إذ كيف لتعبئة شعب أو الوصول به إلى السلطة و هو في وضعية أحوج ما يكون فيها إلى تلبية مطالبه في الاستعداد لخوض غمار التجربة السياسية سبيلا إلى بناء الوطن الديمقراطي الذي يكفل الحقوق و يوجه إلى أداء الواجب.
استطاع الفساد المستشري منذ بداية الدولة الحديثة في الستينات أن يخلق طبقة متمرسة تورث تقنيات الفساد و أساليبه لذويها و لدوائر ضيقة استطاعت أن تلتحم بها و تنسجم مما أفشى الظلم حتى تملك. و من أساليب هذه الطبقة الميسورة الحال بالمال العام القبول بالمسخ الثقافي و الضرب عرض الحائط بالقيم و المثل و إرسال أبنائها في انفصام تام مع المدرسة و المنهاج الوطنيين المهملين إلى البعثات الأجنبية و التحصل على المعارف الحديثة التي تمكنهم من ولوج العمل الرسمي و التموقع في المفاصل القيادية من أوسع الأبواب.
و حال الوضع الذي آلت إليه الدولة من جراء الفساد دون قيام توجه حداثي يرصد عوائق بناء هذا الكيان الحديث و من ثم التحامل عليها عند المنطلق سبيلا إلى تنظيف المسار الطويل من الأشواك و العثرات. و ظلت التراكمات في غياب هذا الوعي بضرورة منع قيامها تتلاحق بكل مفرداتها، من نيذ الاسترقاق و إصلاح مخلفاته المادية و النفسية و حماية الطبقات المصنفة من النظرة الدونية و التهميش الذي لا يحمل اسما إلى غاية التفكير السليم في دعم الوحدة الوطنية بمنطق متطلبات الاستقرار و الأمن الملحين. و لم تنج الدولة و هي تتشكل على هذا النحو المعوج من لفحات و عواصف انقلابات عسكرية متتالية و موجات من الجفاف حادة و حرب ضروس في الصحراء و أحداث 91 الخطيرة التي اكتست طابعا عرقيا، أدمت ظهرها و قوضت مسارها. و ليست التشكيلات السياسية المنبثق جلها من الحركات الاديولوجية التي كان لها ذات يوم دور و لم تغير التشكيلات التي تمخضت عن الأطماع السياسية بحجة الديمقراطية و العصرنة في هذا الوضع الخاطئ إن لم تكن هي من زاد الأمور خطورة حتى تمخض عن ميلاد تيارات نضالية أخرى اختطت لنفسها في هذه المعمعة مسالكا و دروبا بحجج الحقوقية و المطالبة بالعدالة الاجتماعية. و ليست المنظمات المستظلة بقبة المجتمع المدني الواهية بأقل شأنا في إرباك مواطن لم يعد يعرف يده من رجله و لا لأي ولي يتوجه.
والحال على هذا النحو، من الاضطراب و الارتباك، فإن عقول المواطنين تجد نفسها مندفعة بشكل لا يعرف التوقف باتجاه مزالق هذه الوضعية و في هستيرية ترسم على المشهد العام لوحة من الحراك الفوضوي في كل الاتجاهات و بدون أية أهداف تحمل في ثناياها خلاص هذه العقول المعذبة.
و للوهلة الأولى فإنه لن يفوت المتتبع للوضع السياسي بشكل عام و للسلوك المدني للمواطن بشكل خاص تلك الحالة النفسية المضطربة في المواقف و في القناعات و تلك الحالة من الإحباط الشديد المترتبة عن مظاهر الغبن و الإقصاء و التفاوت الخطير ما بين فئات المجتمع طبقية و جهوية على أسس أبعد ما تكون عن العدالة و الإنصاف و روح دولة الجميع الحديثة.
و تأخذ هذه الوضعية النفسية بضعة أوجه و تتجلى في مسلكيات مثيرة منها حدة طباع المواطنين التي تنزع غالبا إلى العدوانية و غياب الثقة و التلاعب بالمواقف و الحربائية و الكبر الذي يشف هن الهشاشة و الضعف و خلو العمق من الإنسانية، و الترحال السياسي دون حياء و الرشوة و تعمد نهب الممتلكات العامة و كأن الأمر بطولي و التلاعب في جرأة يندى لها الجبين بمنظومة القيم و الأخلاق الدينية و السياسية سبيلا إلى مكاسب أنانية أو جماعية ضيقة.
و لا بد انطلاقا من هذه الوضعية النفسية الكارثية لعموم المواطنين و التي خنثت واقع السياسة و وزجت بها وسط مستنقع أوحاله بالعة، من إقدام المخلصين و الغيورين من الطبقتين السياسية و المثقفة و من داخل المجتمع المدني على المصالحة مع الذوات الغارقة في بحور النرجسية الهدامة من خلال خطوة جريئة و على الإقدام، اعتمادا على حراك واع جديد و نظرة ثاقبة متمردة على الواقع المزري، لتدارك الأمر و تصحيح المسار النفسي العام و تجنب منزلقات و مآلات مثل هذه الوضعية التي عصفت بأكثر من أمة و دمرت أكثر من بلد.