في الصحافة الاستقصائية يوجد مصطلح whistleblower أو "مطلق الصفارة" وكثيرا ما تبنى التحقيقات الكبيرة على معلومات يقدمها مطلق الصفارة لأحد الصحفيين.
في كثير من الأحيان يطلب مطلق الصفارة عدم ذكر اسمه أو معلومات حوله مما يجعل الصحفي ملزما مهنيا وأخلاقيا بالحفاظ على سرية مصدره مهما بلغت التحديات، إنه عهد لابد من الوفاء به.
لم تكن تسريبات ويكيليكس لتكون ضربة قوية ضد الحكومة الأمريكية عندما خرجت أول مرة، لولا مقاطع مصورة من جنود اميركيين يطلقون النار على مواطنين أبرياء في العراق وآخرين لا يحملون من السلاح سوى "كاميرا"
كان السبب وراء نشر تلك المقاطع جندي أمريكي عشريني، شارك في تلك الحرب، وأنبه ضميره عندما شاهد تلك الفظائع، فقرر أن يتحرك، مع الأسف تم تحديد هويته والوصول إليه.
تطرقت الكثير من الأفلام السينمائية لدور "مطلق الصفارة" في كشف الفساد واستغلال النفوذ، ودور الصحفيين في حماية المصادر.
من بين تلك الأفلام the spotlight الذي يحكي قصة عمل مجموعة من الصحفيين على كشف الاستغلال الجنسي للأطفال في الكنيسة، وبدأت فكرة التحقيقات بعد تبليغ شباب عن تعرضهم للتحرش.
غير أن فيلم Nothing but truth ركز أكثر على عملية التضحية مقابل الحفاظ على سرية المصدر، ويحكي الفيلم قصة الصحفية راشيل ارمسترونج التي تنجح في الحصول على وثائق تدين الرئيس الأمريكي في حرب فنزويلا، تتعرض راشيل لضغوط كثيرة للكشف عن مصدر معلوماتها فترفض ذلك بكل شجاعة، فيتم سجنها سنوات عديدة، وتكسب أهم جائزة للصحافة الاستقصائية وسط كل تلك المعاناة.
مطلق الصفارة قد يأتي إلى الصحفي بشكل متخفي ويحمي نفسه، مثل الرجل الذي كان وراء أحد أكبر التسريبات في السنوات الماضية "وثائق بانما" حيث تواصل شخص يسمي نفسه "جون دو" مع صحفي ألماني وقال له "هل تريد سبقا صحفيا"؟ وعندما تواصل معه الصحفي وحصل على الوثائق وجد أن الأمر ليس مجرد معلومات تخص ألمانيا بل أكبر من ذلك بكثير، وقد كانت كذلك بالفعل، فعمل الصحفي على إشراك منظمة ICIJ والصحف الكبرى والصحفيين من حول العالم..
وقد يظهر نفسه للناس مثل ما فعل سنودن وجوليان أسانج مفجر ترسيبات وكيليكس، وفي هذه الحالة يتحمل مطلق الصفارة مسؤولية ذلك، وهنا يتخلص الصحفي الاستقصائي من عبئ حماية المصدر.
دوافع كثيرة قد تجعل شخصا عاديا، يكون سببا في فضح أكبر عمليات الفساد أو أفظع انتهاكات ضد القانون وحقوق الإنسان. قد يكون السبب إرضاء الضمير، وقد يكون الشخص ذاته ضحية، وقد يكون بدافع الانتقام أو تصفية الحسابات..
بغض النظر عن الدوافع تسارع الدول التي تحترم نفسها وتحترم القانون والمواطن، في التحقيق في كل ما تنشره الصحافة الاستقصائية ومن يعرفون ب"مطلقي الصفارة" بينما يختلف الأمر في كثير من دول العالم الثالث، حيث تتوجه الأنظمة مباشرة إلى سجن هؤلاء والتضييق عليهم وقطع أرزاقهم، لقد حصل ذلك مع صديق لي صحفي في دولة بنين وسجن ستة أشهر، بسبب تدوينة على الفيس بوك، وحصل قبل أيام قليلة مع رئيس المنظمة التي أنا عضو فيها CENEZO وهو صحفي من نيجيريا حيث حكم عليه بالسجن شهرين مع وقف التنفيذ بعد مسار طويل من التقاضي، بسبب تحقيق حول تجارة المخدرات.
قد يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك …قد يصل إلى القتل بدم بارد حدث ذلك مع صحفية شاركت في وثائق بانما من دولة ملطا، وحصل مع آخرين.. رغم أنه هناك قاعدة في الصحافة الاستقصائية تقوله بأنه ليست هناك قصة تستحق أن نموت من أجلها…
غير أن كل تلك المضايقات لا تزيد الصحفي الاستقصائي أو مطلق الصفارة، إلا شهرة وتأثيرا، خاصة إذا كان صاحب علاقات وعمل مع مؤسسات صحفية ومنظمات تدافع عن الصحفيين، ولا يزيد الحكومات إلا زيادة في سوء السمعة وتصدرا لقائمة البلدان القمعية، سواء ظل على قيد الحياة أو تم تغييبه..
تحتاج البلدان النامية، والأنظمة التي تضع في مقدمة شعاراتها محاربة الفساد وتجسيد الديموقراطية، إلى النظر للصحفيين الاستقصائيين ومطلقي الصفارة بزاوية مختلفة، فهؤلاء ليسوا أعداء ولا مخربين، وإنما يمكن التعامل معهم على أنهم شركاء في عملية تحقيق هذه الأهداف السابقة، لأنه ببساطة الهدف واحد وإن اختلفت الأساليب.
كما على الحكومات التي ترى في خيار القمع، طريقا إلى الحد من كشف مالا تريد له أن يكشف، عليها أن تدرك أن هؤلاء الذين يقررون أن يسلكوا ذلك الطريق، قد عرفوا مآلاته لا محالة، ووصلوا إلى مرحلة من التصالح مع الذات ومع النفس، تجعلهم قادرين على التأقلم مع أي موقف، سواء السجن أو الإبعاد أو التضييق.. يمتلك هؤلاء نفسيات خاصة معقدة، تختلف عن نفسيات من يحسبون الأمور بحسابات الربح والخسارة.
لقد كانت "راشيل" في فيلم "لاشيء غير الحقيقة" صامدة في سجنها سعيدة مع رفيقات الزنزانة بعد إطاحتها برؤوس كبيرة تقوى أصحابها بالمال والنفوذ، بينما كان زوجها الذي تخلى عنها لاحقا يشعر بالأسى عليها، ويحاول أن يرغمها على كشف مصدرها مقابل حريتها.
الذين يأخذون طريق راشيل هم من نفس الطينة.