لم أكن أدرك يوماً أن الشوق يسكن باللقاء، أو أن الاشتياق يهيج بالالتقاء، حتى أبصرتُ حالَ والدي، شفاه الله وحفظه، الذي أقعدته جلطة دماغية خفيفة عن الحركة، و هو يتهلل طرباً و شوقاً و اشتياقاً لأننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى قريته الروحية، قرية انفني العامرة، و التي تقع على بعد حوالي 70 كلم شمال غرب مدينة ابي تلميت. حيث ضريح شيخه القطب العارف بالله دهاه، خديم الحضرة الأحمدية، و الذي لا يفصله عن ضريح شيخه الولي العارف بالله الشيخ محمد الحافظ لحبيب سوى سبعة امتار من الحصى الرملي.. و في جنبات المدفن المبارك الأولاد و الأحباب و الآل و غيرهم من من جمعتهم نوايا الحب و المحبة بالحضرة المباركة.
بدى لي واضحاً أنه حينما استحضر والدي لقاءه بهذه الحضرة المحمدية الأحمدية هاج اشتياقه، ففاض من ذالك الشوق فرحاً تشكل على شكل دموع يعقوبية، سالت على الوجنتين صورة للمحبة و تجلياً للشوق و انعكاساً للنيرفانا التيجانية. هنا حاولت عبر سكون و سكينة الرحلة أن استنطق هذا الحال و المقام الذي يتمثل لمثلي كطيف ما يلبث ان يتحول لسديم سماوي متبعثر و قديم قالوا بأن بقاء الحال من المُحال.
حاولت أن أتفهم هذا الشوق و الاشتياق، و استدعيتُ قواميس القوم بدءاً بابن عربي و فتوحاته المكية و انتهاءا بجواهر المعاني للشيخ التيجاني و مُرورا ً بالولي المغدور الحلاج و السهرودري المقتول و الشبلي وابن الفارض و النفّري و الجيلي و الجيلاني.. و لكن عبثاً أحاول..ليست القراءة هنا مُعينةً البتة و إنما محضُ الذوق والصفاء و الفناء.
ميزة هؤلاء القوم أن علمهم تتطلب معرفته قلباً صافيا ًلم تلوثه تفاعلات الحياة. ليست الذاكرة الجيلاتينية و الحفظ الببغاوي و الخُيلاء المعرفية و حُب الظهور، من ميزات القوم البتة.. هذه أمةٌ من الناس ماتت قبل أن تموت.. و تجاوزت أنفسها بفعل الكسب و الجذب و الفناء عنها بها.
إذاً هنا قرية انفني حيث ستقام (الدَركة) تحت عنوان تزكية النفوس: التيجانية نموذجاً. و هي اجتماع موسميٌ دينيٌ و صوفيٌ، أسسه منذ فجر التسعينيات من القرن الماضي، الولي و العارف بالله، خديم الحضرة الأحمدية، شيخنا محمد المختار ولد دهاه ( دهاه علماً). و هذا التجمع العالمي الصوفي الذي تذوب فيه الانتماءات الاجتماعية والجغرافية و السياسية و المذهبية، بشكل قد لا يتصوره أي عارف بخفايا اللحظة السوسيوثقافية التي تعيشها شعوب المنطقة اليوم. هو تجمعٌ انفرد بالعديد من المزايا التي تأهله للصدارة و الريادة و هو الذي يسعى إلى جمع المدارس تحت راية الانتماء للمشرب الصوفي الواحد مع تعدد الروافد و تنوع الفروع.
خديم الحضرة الأحمدية دهاه، رحمه الله و رضي عنه، هو وليٌ عارفٌ بالأحمدية و المحمدية، و قد قذف به منجنيق القُطبانية و العرفانية من القرون اللدنية إلى القرن العشرين، حيث أعاد للإبراهيمية الأولى تجسيدها.. فلقد حول قرى في السينغال و موريتانيا و بمحاذاة النهر السينغالي، من حالة الموت المادي و الروحي إلى الوجود الفاعل حيث أنها اليوم باتت قرى عامرة و مآذن تصدح ليل نهار بصلاة الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق و تسبح خالقها و تكرم ضيفها وتعلم أبناءها و تُعين على نوائب الحق.
إن كان من تأريخٍ لتجلي هذا الولي العارف في دنيانا هذه أيام حياته، فهذا مقامٌ لا ينبغي تجاوزه لمن أراد الدراسة يوماً لتشكل تلك المجتمعات مادياً و روحيا. لقد بنى دهاه الإنسان في تلك الربوع كما بنى إبراهيم البيت مثابة للناس و آمنا.
.ولك ان تتصور أن هذه الدبلوماسية الروحية نجحت في ما فشلت فيه جلُ الحركات السياسية و الاجتماعية المعاصرة.. لقد كنت شاهدا ً على ترويضٍ و أخلقةٍ معلنةٍ للسياسة و السياسيين، بحيث تم خلال هذا الاجتماع الديني الهام، نسيان و تناسي الجانب الطيني فينا، و التركيز على الجوهر الروحاني الذي هو أساس وجودنا و الذي هو الهوية الحقة التي لا تتبدل مهما تبدلت جوازات سفرنا القطرية..
ولك أن تتصور أن الصوفي الجزائري و الصوفي المغربي مثلاً، كانا من شدة الألفة و المحبة البينية، كحبات سبحةٍ، شاهدتها في يد شيخٍ أفريقي، قادم من السينغال و هو يجالسهما، المنكب بالمنكب، عند ضريح تاج العارفين، دفين أنفني، مولانا الشيخ محمد الحافظ لحبيب، أول قادم بالطريقة التيجانية إلى موريتانيا و إفريقيا.
هنا أدركت أن مشكلاتنا السياسية و الاجتماعية المعاصرة، ليست من الصعوبة بمكان إذا ما استحضرنا الجامع الصوفي الذي يستطيع وحده أن يوحد المنطلقات و الرؤى، و أن يحدد مسارها، و أن يكون الناظم الروحي الوحيد الذي يتطلبه الاجتماع و العمران البشريين بلغة ابن خلدون.
ولك أن تتصور أن المدارس الصوفية المحلية و التي ألقت عليها التباينات السياسية بظلالها، كانت حاضرةً و بقوةٍ في اجتماع انفني العامر رغم كل الحساسيات المدرسية.. لقد لوحظ مؤخرا في السياق الصوفي أن الاجتماعات البينية لم تعد تنحو نحو التجميع و التنويع المدرسي بقدر ما تسعى لإبراز التشظي و الانزواء و هو ما يوجب على أصحاب الرؤى و الأفكار أن يقدموا حوله دراسات و استراتيجيات تعيد للتصوف ألقه و تنوعه ضمن وحدة شهود المعنى التي هي أصل الاجتماع عند القوم.
يتواصل ..