تميز عصر العولمة الثقافية والاجتماعية، الذي نعيش إرهاصاته وحيثياته وتمظهراته منذ حين، ببروز وتصدر وهيمنة الإعلام الجديد، المتمثل أساسا في شبكات التواصل الاجتماعي المتعددة والمتنوعة، كإطار فريد من نوعه للتواصل والتبادل والتداول والتفاعل عبر المعمورة يتميز بالتدفق، والانسيابية، والمرونة، واليسر، والسرعة، والشمولية، ناهيك عن الحرية التامة والمطلقة لحد الاعتباطية، والفوضوية والعبثية لدرجة الابتذال ، حيث لا حسيب ولا رقيب.
وقد جعلتها هذه السمات وتلك الخصوصية قبلة الجميع، كبارا وصغارا، شيبا وشبابا، مثقفين وأميين، حيث أصبحت مصدرا أساسيا للمعلومات بالنسبة للسواد الأعظم من الناس الذين يتداولون بحيوية، ويتعاطون بأريحية مع كل ما يرد ويتقاسم عبرها، كما يركنون ويطمئنون، وغالبا ما يتبنون ما يبثه، ويروجه، ويسوقه، ويسوغه الناشطون بها، والفاعلون في فضائها، حتى ولو كان زورا وبهتانا، اختلاقا وافتعالا، وهما أو توهما، تغريرا وتضليلا.
والشائعة في حقيقة الأمر لا تعدو كونها في المحصلة النهائية ذلك الخبر الكاذب، الزائف، المغلوط الذي ينتشر بين الناس كالنار في الهشيم، رغم عدم التثبت من صدقيته، أو التأكد من صحته. وهي تأتي في صور مختلفة، حيث تتخذ طابعا نفسيا صرفا، أو اجتماعيا، أو عسكريا، أو أخلاقيا، كما أنها تكتسي سمة المحلية، أوالاقليمية، أو العالمية والدولية. وتصنف إلى أنماط متعددة ومتنوعة كشائعة جس النبض، وشائعة حرب الأعصاب، وشائعة سحابة الدخان، وشائعة الرعب، وشائعة الشغب، وشائعة التنبؤ، وشائعة النكتة، وغيرها مما يضيق المقام عن بسطه والتفصيل فيه.
ومن المعلوم أن للشائعة التأثير البالغ على الأفراد والجماعات والمؤسسات والمجتمعات والدول والشعوب والأمم ، حيث أن بعضها يعمل على إثارة النعرات، وتأجيج المشاعر، وإشاعة الكراهية والعداء، واليأس والإحباط، والخوف والهلع والفزع، وذلك ما يجعلها أحيانا تكون مدعاة لتهديد الأمن والسلم الأهلي. وعلى الرغم من وجود الشائعة عبر العصور والأزمنة بوصفها مفردة من مفردات التفاعل الاجتماعي، وأداة من أدوات الصراع المجتمعي، إلا أنها في عصر العولمة أضحت أكثر تأثيرا من ذي قبل بفعل تعدد، وتنوع، وسرعة، وكفاءة، ويسر آليات ووسائل ووسائط بثها، وتداولها ونشرها عبر المعمورة، في وقت وجيز وقياسي. وهكذا أصبح بمقدور الشخص الواحد الإقدام على صناعة خبر مفبرك، ما أنزل الله به من سلطان، ونشره(كتابة،أو صوتا، أو صورة، أو هي مجتمعة) عبر مواقع متعددة ووسائط مختلفة، فيتلقفه الناس، تبادلا وتداولا، زيادة وتضخيما وتهويلا، ليصبح مادة حية، حيوية، ديناميكية وقادرة على التأثير، هنا، أوهناك، أوهناك، وفي هذا، أوذاك، أوهؤلاء، أوأولئك.
لقد صاحب ظهور هذا الفيروس ببلادنا، بموجاته المختلفة وارتداداته المتنوعة الكثير من الشائعات والدعايات المضللة التي انتشرت بين الناس وأثرت سلبا على اتجاهاتهم وقناعاتهم بخصوصه، نستعرض فيما يلي نماذج منها:
1ـ شائعة "خرافية الفيروس": لقد شكلت هذه الشائعة التي تم تداولها على نطاق واسع خلال الإرهاصات الأولى للموجة الأولى من كوفيد 19 تحديا حقيقيا بالنسبة لمختلف الأجهزة والمصالح والهيئات الصحية والفنية والإدارية والأمنية القيمة على الجهود الوطنية الساعية للحد من انتشار الفيروس من جهة، وتخفيف آثاره وتداعياته من جهة أخرى، بفعل خطورتها على المجتمع والدولة عموما، ومبلغ تأثيرها على إدراك الناس لكنه، وطبيعة، وخصوصية الجائحة، ومن ثمة تشكل وتبلور اتجاهاتهم نحوها، خاصة وأن وضع المنظومة الصحية وقتها كان بالغ الهشاشة، ومستوى الجاهزية لمواجهة الفيروس اللغز شديد التواضع.
2ـ شائعة عدم جدوائية الإجراءات الاحترازية: لا تقل شائعة عبثية، وعدمية، وعدم جدوائية الإجراءات الاحترازية وتتفيهها، وتسفيه من يتقيد بها، والاستهزاء بمن يدعو للأخذ بها، خطورة عن سابقتها، نظرا لما يترتب على ذلك وينجر عنه من ارتفاع في معدلات الإصابات، ناهيك عن عدم بلوغ المستوى المطلوب من المهارة والكفاءة في الاستخدام، والمأمول من التعود والاستئناس، بالنسبة لنمط سلوكي جديد، يتطلب تمثله مستويات عالية من الوعي الصحي والمدني والاجتماعي، لاتتاح بالضرورة للسواد الأعظم من الناس. ولاشك أن ذلك الوضع يمثل خطورة قصوى، وخطرا محدقا بحياة الكثير من الناس، إذا ما أخذنا في الحسبان انسيابية وتدفق العلاقات الاجتماعية، وكثافة التفاعل الحميمي في وسط اجتماعي تقليدي بامتياز، يتقاسم كل مفردات الحياة اليومية بتلقائية مفرطة، ودون أدنى مستوى من التحفظ في الغالب الأعم.
3ـ شائعة خطورة اللقاح:على الرغم مما شكله اكتشاف لقاح لفيروس كورونا يمتاز بفعالية كبرى في رفع وتعزيز مستوى المناعة لدى الجسم حتى يكون قادرا على مواجهته واحتوائه، من فتح مبين جعل العالم بأسره يتنفس الصعداء ويتلمس طريقه للخروج من عنق الزجاجة الذي وجد نفسه محصورا فيه بفعل سرعة انتشار الفيروس، وقوة بطشه، وحدة فتكه، مع عمق غموضه وتدني المعلومة اليقينية بشأنه، والعجز السافر عن مجاهبته، والقصور البين عن احتوائه والحد الفعلي والعملي من آثاره وتداعياته وانعكاساته، فإنه مثل مادة خصبة، ومائدة شهية للدعاية والتضليل. وتجسد ذلك في إطلاق شائعات تحذر الناس من الوقوع في فخ أخذه نظرا لخطورته البالغة على حياة كل من يستخدمه، حيث يعرض نفسه لموت محقق في فترة وجيزة مداها قد لا يتجاوز السنة أو السنتين من وقت تناوله .
وعزز الذين يروجون شائعة خطورة اللقاح دعاياتهم المضللة بالذهاب لحد القول بأن "خدعة" كورونا الهدف منها برمتها هو اللقاح، حيث أن كل ما سبقه ليس إلا تمهيدا له، واستدراجا للجميع للتدحرج نحوه، والسقوط في فخه، والتردي في وحله. معتبرين دافع ذلك مادي صرف، يتمثل في الأموال الطائلة التي تجنى من وراء تسويق اللقاح ومتعلقاته. في حين ذهب البعض منهم لحد الجزم بنية وإرادة الإبادة الجماعية الكونية، حيث سيتم القضاء المبرم على معظم البشرية بيسر وسهولة وسلاسة من خلال اللقاح المميت.
4ـ شائعة تكسب الدولة بالجائحة: لقد بلغ بمروجي الشائعات ودعايات التحريف التمادي في التضليل حد اتهام الدولة بالتكسب بالجائحة، حيث اعتبروا أنها تدعي زورا وبهتانا وجود الفيروس بالبلاد طلبا للاستفادة من الدعم اللوجستي والمالي من الدول و المنظمات والهيئات الدولية. ولا يخفى ما لهذه الشائعة من خطورة، حيث تسعى للدفع بالناس إلى التهاون بالإجراءات الاحترازية والترتيبات الوقائية بفعل عدم وجود الفيروس أصلا بالبلاد من جهة، والنيل من هيبة ورمزية ومصداقية الدولة لدى المواطن البسيط غير العارف، وغير الواعي بخبايا وخلفيات الكثير من الأمور من جهة أخرى ، وذلك ما يجعله يصدق كل ما يرد ويتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائط الاتصال المختلفة. إن تصوير الدولة على أنها تتكسب على حساب أرواح المواطنين وتعبث بمصالحهم في سبيل الحصول على بعض فتاة بعض الدول أو الهيئات أو المنظمات تعتبر من أبشع وأخطر الشائعات المواكبة لهذه الجائحة وأكثرها سوء، حيث أن أثرها وتداعياتها، في الحاضر والمستقبل، يتجاوز الوضع الاستثنائي المرتبط بالجائحة.
5ـ شائعة انتهاء الجائحة: إن القول بالانتهاء التام والمطلق للجائحة ودحرها والقضاء النهائي عليها يعني ضرورة التخلي عن التقيد بالإجراءات الاحترازية وتجنب أخذ اللقاح بفعل انتفاء الحاجة لذلك. ويعتبر ذلك أمرا بالغ الخطورة بالنظر إلى ما اتسم به لحد الساعة، من الديمومة والاستمرار والتحور والتحول من وضع لآخر ومن هيئة لأخرى، مما يزيده تعقيدا وإشكالا وخطورة وفتكا. وذلك ما يستدعي الزيادة في أخذ الحيطة والحذر(التمادي في الإجراءات الاحترازية) والمزيد من الركون إلى أسباب الحماية(تعزيز جرعات اللقاح)بدل التهاون بها والزهد فيها.
ونظرا إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي تمثل في العادة بيئة خصبة ملائمة ومناسبة لترويج الشائعات، وبث المغالطات، ونشر الأكاذيب، وتهييج المشاعر، ونفث السموم، خاصة وقت الصعاب، وأوان الأزمات، وبما أن الظرف الخاص والاستثنائي الذي تعيشه البلاد، على غرار شعوب المعمورة، بفعل حدة وتصاعد الموجات المتتالية من كوفيد 19(لا تكاد تنحسر موجة إلا وقد بدت تلوح في الأفق موجة أخرى أكثر تعقيدا وأبلغ فتكا، ولا يكاد متحور ينجلي أمره وتتضح خصوصيته حتى يقفز إلى الواجهة غيره مما هو مختلف عنه ومغاير له ) يتطلب رص الصفوف، وتكاتف وتكامل الجهود سبيلا للحد من انتشار هذا الفيروس الفتاك، فإنه من اللزوم علينا جميعا، أفرادا وجماعات، هيئات ومؤسسات ، العمل على ضمان صحة، ودقة، ونزاهة المعطيات، والمعلومات، والبيانات ذات الصلة بهذه الجائحة. ولبلوغ ذلك لابد من السعي إلى رفع مستوى الوعي لدى رواد هذه الشبكات والفاعلين بها والمتفاعلين معها ، ليكونوا جميعا على قدر المسؤولية المنتظرة منهم في وضع كهذا، وظرف بهذه الدقة والخطورة والحرج، حيث يتوقع منهم استحضار حجم المسؤولية الأدبية، والمعنوية، والشرعية، والقانونية، والأخلاقية الواقعة على كواهلهم. وذلك ما يحتم عليهم تغليب المصلحة العامة والعليا للوطن، وأن ينأوا عن نشر، وبث، وتداول الشائعات، والأخبار الزائفة والمغلوطة، والمعطيات المضللة غير الدقيقة وغير النزيهة، والمعلومات غير اليقينية، وأن يعتمدوا بدل ذلك المصادر الموثوقة، الصحيحة والمؤكدة. وأن يحجموا عن كل ما من شأنه أن يتسبب في تراخي، أو تهاون المواطنين في التقيد بالإجراءات الاحترازية والترتيبات الوقائية، من قبيل التشكيك بوجود الفيروس ومصداقية المعلومات المتداولة بالدوائر الرسمية ذات الاختصاص والمسؤولية، ونجاعة ارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي والغسل المنتظم لليدين بالماء والصابون وأخذ اللقاح، أو وجاهة وجدوائية الجهود الوطنية المبذولة في سبيل الحد من انتشاره وتفشيه. وعليهم كذلك الابتعاد كل البعد عن منغصات الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والوئام المجتمعي، من قبيل بث خطابات الكراهية والتطرف، ونفث سموم العصبية القبلية، والتعصب العرقي والشرائحي، والتقوقع الجهوي، لأن حدة الوضع، وخصوصية الظرف، وحساسية السياق تتطلب بالضرورة والفعل الهدوء، والسكينة، والأريحية، والصدق، والأمانة، والمصداقية، والأمل، والتفاؤل، والمحبة، والتعاون، والتكافل، والإخاء.
وعلى كل حال نتمنى أن تصبح شبكات التواصل الاجتماعي ببلادنا منصات موضوعية، مهنية، إيجابية، بناءة، وفاعلة في ترقية المجتمع، وبناء الأمة، وتحقيق التنمية، ومحاربة الجهل والتخلف. وأن تشكل فضاءات حيوية، ديناميكية، ورحبة للتوجيه، والتربية، والتهذيب، والتكوين، والتأطير، والمثابرة، والسعي الدؤوب، النسقي، المنتظم والتراكمي لتنمية ثقافة المواطنة وقيم الوحدة الوطنية، وتقوية اللحمة الاجتماعية وتعزيز الوئام المجتمعي. إضافة إلى استنهاض همم القوى الحية بالمجتمع لرفع مستوى الوعي، وترشيد السلوك، وترقية المساهمة ،وتكثيف التدخل، دعما وإسنادا، ودفعا ومؤازرة للجهود الوطنية الهادفة لتجنيب البلاد والعباد خطر وضرر هذه الموجات الشرسة المتتالية والمكثفة من هذا الوباء الكوني الفتاك.