اللحمة الوطنية ضرورة ملحة في أوقات الأزمات / د.رقية أحمد منيه

إن اللحظات العصيبة في تاريخ الأمم، تحدد مدى قوة التماسك والترابط بين أفراد المجتمع، وكذا الأحداث الفارقة والتعرض للأزمات الثقافية والصحية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الانتكاسات، كلها ينبغي أن تقوم بالتأسيس لذاكرة جمعية مستقبلية، تنير للأجيال اللاحقة طريق التماسك، وتصنع التاريخ في جزئيات الأحداث استنادا على السنن القرآنية في التغيير، فقد ذكر شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾؛ "يقول تعالى ذكره: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ ، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم= ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره".  والله سبحانه وتعالى، خلق في الإنسان القدرة على الاختيار، بين سلوك سبيل المصلحين، وأهل الخير والإحسان، أو السير في طريق المفسدين، وأهل الشر والعصيان.    

ثم إنه لا مفر من اجتماع الكلمة حول القواعد الناظمة لعقد الأمة، لأنه؛ إذا انقطع الحبل الناظم لها تبعثرت وتناثرت جزئياتها، وصارت كل مكوناتها عرضة لقواطع الأواصر، وأضحى مكمن قوتها ضعفا، وسر تماسكها وهنا.

ثم إنه من بواعث الإحباط أن نصف التنوع الثري للمجتمع بعامل هزيمة أو حامل تفرقة، كيف لآية باهرة دالة على بديع الخلق عطفت على ما هو أكبر من خلق الإنسان ألا وهو خلق السماوات والأرض، أن تكون مصدرا للوهن؟،  قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰ⁠نِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ (٢٢)﴾.

يقول ابن جزي في تفسير الآية:" ﴿وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي لغاتكم ﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾ يعني البياض والسواد، وقيل: يعني أصنافكم، والأول أظهر".

وذكر القرطبي في تفسيره- أي الآية-:"اللِّسَانُ فِي الْفَمِ، وَفِيهِ اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ: مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ.. ..وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ فِي الصُّوَرِ: مِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، فَلَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا إِلَّا وَأَنْتَ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ. وَلَيْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ فِعْلِ النُّطْفَةِ وَلَا مِنْ فِعْلِ الْأَبَوَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْمُدَبِّرِ الْبَارِئِ".    

إن التشرذم والتدابر  والتنابز بالألقاب وصب سيل قبيح النعوت على الإخوة في الدين والوطن ، ليس الأسلوب الأمثل لمواجهة الأزمات،   ومنهي عنه شرعا، ولا يشير إلى السلوك الحضاري للمجتمع، ويعطي انطباعا لدى الغير بتفرق الأمة، وغياب روح المسؤولية الوطنية، وتدني المستوى الثقافي للنخبة، وتحكم المصالح الضيقة، وتفشي للفهم السقيم لمبادئ الشرع الحنيف الرامية إلى تحقيق العبودية الحقة لرب العالمين وتساوي المخلوقين في .. .. توجه الخطاب والتكليف والكرامة الإنسانية..والتفاضل عند الله تعالى بالتقوى..والأصل أن الناس سواسية..ولا ينافي ذلك حصول السبق في الخير لمطابقته القاعدة القرآنية:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾، يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير:"وجُمْلَةُ ﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا وإنَّما أُخِّرَتْ في النَّظْمِ عَنْ جُمْلَةِ: ”﴿إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾“، لِتَكُونَ تِلْكَ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ كالتَّوْطِئَةِ لِهَذِهِ وتَتَنَزَّلُ مِنها مَنزِلَةَ المُقَدِّمَةِ لِأنَّهم لَمّا تَساوَوْا في أصْلِ الخِلْقَةِ مِن أبٍ واحِدٍ وأُمٍّ واحِدَةٍ كانَ الشَّأْنُ أنْ لا يَفْضُلَ بَعْضُهم بَعْضًا إلّا بِالكَمالِ النَّفْسانِيِّ وهو الكَمالُ الَّذِي يَرْضاهُ اللَّهُ لَهم والَّذِي جَعَلَ التَّقْوى وسِيلَتَهُ ولِذَلِكَ ناطَ التَّفاضُلَ في الكَرَمِ بِـ ”عِنْدَ اللَّهِ“ إذْ لا اعْتِدادَ بِكَرَمٍ لا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ".،    

 ثم إن القول بوجود سابقة الخير إنما يعضد ذلك، لأن السابقين الأولين إنما سبقوا بالإيمان وبذل المهج في سبيل الله لا بالحسب والنسب..وهذا الفيصل معيار ثابت تقرر في الأصول المتفق عليها.

وقد يحدث ما يعكر صفو الوحدة الوطنية لأسباب عديدة..تظهر من حين لآخر تبعا لبعد الشقة عن منبع الوحي وعصر النبوة، واستبدال مقاصد الشرع العامة بظواهر اجتماعية سادت زمان التقهقر الحضاري..ولدت نظرة دونية لفئات متمايزة..، ولا شك أن مجتمعاتنا استصحبت بعضا من ذلك التراجع من رواسب أزمنة غابرة، جعلها تعاني من خلل في كثير من الجوانب؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكن ليس هذا الوقت المناسب للمحاسبة، ومعالجة القضايا العالقة، أو مراجعة الأخطاء بشكل سريع ضره أكبر من نفعه، بل لا مناص من مقاربة تأصيلية تناسب الزمان والحال.

إن التدابر بين الإنسان وأخيه الإنسان، ليس له لون ولا عرق ولا شريحة ولا طائفة، وقد يكون عائدا إلى أسباب متعددة، ترجع في الأساس إلى سوء التقدير أو خلل في التفكير أو سيادة العادات والتقاليد البدوية، أو الانتقال غير المدروس من البداوة إلى التمدن تولد عنه بعض الممارسات الدخيلة على المجتمع..نحو العدوانية داخل النفس البشرية، وهو تغير يطرأ على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

 ويحدث بسبب غياب الوازع الديني وتراجع القيم والأخلاق، أو ينتج عن تفاعل عوامل انتهاك حقوق الأخوة الإنسانية، وقد يحدث بسبب الاختناق الداخلي؛ نتيجة الكبت النفسي أو الحرمان العاطفي، أو التنشئة الاجتماعية غير السوية، أو التعرض لصدمات نفسية معينة، أو نتاجا لفقر مدقع يشكل هشاشة اجتماعية، تعرض المتلبس بها لكل الضغوط الاقتصادية، وتحدث شرخا في قدرة المجتمع على التحكم في التوجيه السليم للشباب، أو التأثر بتيار الآثار السلبية للعولمة الثقافية، التي تسخر أدواتها العابرة للقارات، لطمس الهوية الثقافية للشعوب، ومن أبرز مظاهرها شغف الكثير من أبناء الأمة بمخرجات العولمة الرقمية الجارفة القائمة على العنف اللا محدود، وملازمة استخدامها بشكل لافت إلى حد الإدمان.

يجب أن يتدارك المجتمع ما فات، وأن يراجع أخطاء الماضي، وأن يعمل يدا بيد، في مواجهة التحديات القائمة، وأولها التحدي الأخلاقي، والأزمة الصحية العالمية الراهنة، وأن يستحضر الإرشاد النبوي الشريف؛

فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)). صحيح مسلم (٢٥٨٥)  ، وأخرجه البخاري (٦٠٢٦)، ومسلم (٢٥٨٥).  

"وفي هذا الحديثِ يخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ المؤمنينَ في تَآزُرِهم وتَماسُكِ كُلِّ فَرْدٍ منهم بالآخَرِ، كالبُنيانِ المَرْصوصِ الذي لا يَقْوَى على البَقاءِ إلَّا إذا تَماسَكَتْ أجزاؤُه لَبِنَةً لَبِنَةً، فإذا تفَكَّكَتْ سَقَطَ وانهارَ". الدرر السنية.

إن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، تعتبر مناسبة حتمية لزرع روح التعاون والبذل بين أفراد المجتمع، والسعي إلى إحقاق العدل والمساواة بين كل الفئات، والحث على فعل الخير، ونشر ثقافة وقيم العدالة الحقة ومكافحة آثار الغبن والظلم والفقر والجهل، والتركيز على معالجة التبعات الاقتصادية للأزمات الصحية الراهنة.

إن أزمة وباء (كوفيد-١٩)، سيكون لها ما بعدها، ولن تمر مرور الكرام، فقد كشفت عن بعض ما أشكل، وأظهرت حاجة المجتمعات الملحة للتماسك والترابط والتعاون والتكاتف والتسامح.

إن الظرف الحالي المتدثر بدثار وباء عالمي، يفتك بالأرواح وينهك المنظومة الصحية العالمية، حتى صار كل بلد يشكو من عدم القدرة على مكافحة الوباء المستجد، جدير بأن تتضافر فيه الجهود، وتجتمع الكلمة، وتترك الخلافات جانبا، ويعمل الجميع  على التصدي لجائحة الوباء المستجد.

إن عوامل التماسك، أكبر من عوامل التفرق، وأوقات المحن تمثل اختبارا حقيقيا لصلابة الروابط المجتمعية.

 وهدف ترسيخ مبادئ اللحمة الوطنية، ينبغي أن يسعى إليه الجميع.

والمحن مسبار لقياس التلاحم المجتمعي.

ورب محنة في طياتها منحة.

#- ولا تفرقوا..

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

18. يناير 2022 - 9:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا