استمرار الدول وبقاء المجتمعات في مجال مزدحم الفضاءات وعالم متصل الوحدات والمكونات، تتلاشى فيه الحدود والحواجز، يتطلب التفكير الجدي في تسيير الاختلاف الذي تفرضه الطبيعة الإنسانية للبشر، وتطوير أسلوب إدارة المشاركة لمختلف القوى في التنمية والبناء باستثمار الخصب الذي ينتجه التوظيف ألإيجابي للتفاعلات والتناقضات المحلية،.
ومن شأن تقوية لحمة الشعب، وتعزيز علاقات التماسك والترابط بين مكوناته، وتنمية مشاعر الانتماء والولاء الوطني لدى أفراده، تحقيق الوحدة الوطنية أي توحيد مكونات الشعب بمختلف منابته وألوانه وشرائحه ومذاهبه لخلق حالة أمنية وسياسيّة واقتصادية إيجابيّة في المجتمع تهدف إلى تحقيق مصالحه العامة وخدمة همٍّه المشترك.
ولتعميق وبسط الحديث في هذا الموضوع لا بد من الرجوع بشيء من التفصيل في ما يتعلق بمعنى الوحدة ومفهوم الوطن وتعريف الشعب:
فالوحدة هنا هيِ اتِّحَادُ مكونات اجتماعية ضمن مجال جغرافي محدد تجمعها روابط مكانية وتاريخية واقتصادية في قُوَّةٍ موحدة لِتَكْوِينِ دولة تحت راية حكم واحد.
والوطن اصطلاحاً هو المكان الذي نشأ فيه الإنسان ، ويسكنه وينتمي إليه انتماء معنويا وماديا، أي يرتبط به برابط الوطنيّة، التي تعني واجب الولاء والإخلاص والحبّ والنضال والتضحية في سبيل الوطن من جهة، وضمان حق أمن النفس والمال والعرض، وحرية التعبير والاختيار والتملك (في الحدود المشروعة لممارسة الحرية الشخصية)، وتوفيرخدمات التعليم والصحة والعيش الكريم للمواطن من جهة أخري.
والشعب في الاستخدام الحديث يعني مجموعة من الناس أو الأقوام الذين يسكنون في مكان واحد أو بلد واحد يسمى الوطن وإن لم يكن يربط بينهم رابط لون أو نسب أو دين أو لغة أو مذهب.
فما هي أسس ومقومات الوحدة الوطنية؟
أولا: الأسس وتنقسم إلى ثابتة ومتغيرة:
أ- فالأسس الثابتة: أي الأسس والثوابت المميزة، التي بتوافرها مجتمعة تحددت ملامح هذا الوطن ككيان يسمى الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وهذه الثوابت هي: الهوية الوطنية الناظمة، والثقافة والعقيدة الإسلامية الجامعة، وروابط الأخوة الإنسانية الأزلية، التاريخ والعيش والمصير المشترك.
ب- وأما الأسس المتغيرة: أي أنها أسس تكتسب عن طريق جملة من العوامل والإجراءات من أهمها: الخضوع لضوابط السكينة والاستقرار، واحترام قواعد تنمية وتعزيز العلاقات خدمة للمصالح المشتركة، وإشاعة ثقافة التعاون والتسامح لضمان التبادل المحترم، مدُّ جسور التواصل لدعم أواصر أخوة الدين والإنسانية والآمال المشتركة، بناء روابط النسب والمصاهرة لتماسك وتقوية النسيج المجتمعي.
ثانياً: مقومات الوحدة الوطنية وتنقسم أيضاً إلى قسمين:
أ- مقومات بنيوية ويقع عبؤها الأكبر على دور النخبة والطليعة: وتأتي في مقدمتها: الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام ثم الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والإدارات و والأسواق و ورشات العمل.
ب- مقومات خدمية ويقع عبؤها على كاهل الدولة: وفي مقدمتها: توفير الأمن والحرية ، صيانة الحقوق والمساواة في التعليم والفرص، العدالة في توزيع خدمات الصحة والغذاء والماء والكهرباء، حسن استغلال الثروة والكفاءة في تسيير المال، والمساواة أمام العدالة والقانون.
وعلى ضوء ما سبق نتناول مسألة الوحدة الوطنية لذالك الشعب المتعدد الألوان والأعراق واللهجات جمعته ظروف التاريخ والجغرافيا والدين لينصهر في هوية جامعة خلف سلطة موحدة ويتحد تحت راية دولة واحدة تسمى الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
فما هي أهم مشتركات هذا الشعب ؟ وما هي أبرز تناقضاته؟
1-الشعب الموريتاني هو عبارة عن خليط من المكونات والإثنيات تعايشت عبر التاريخ واشتركت قواسم متعددة فاندمج بعضها واحتفظ البعض بخصائص مميزة. ويتكون الشعب الموريتاني من مكونتين رئيسيتين هما:
أ-المُكوّنُ العربي "البيض والسمر: الذي يشكّل أغلبية الشعب، ويتميّز بوحدة اللغة والثقافة العربية والدين الإسلامي، وتتشابه هذه الأغلبية في هياكلها الاقتصادية و الاجتماعية وتشترك في كثير من سمات الحياة كالبداوة وما تعنيه من نمط العيش وعدم الاستقرار، والأنشطة ألاقتصاديه كالرّعي و التجارة، وتتشكل هذه المكونة من شرائح اجتماعية متعدد مندمجة ومتكاملة، ومن منابة وأصول مختلفة كالعرب ولحراطين والبربر.
ب- المُكوّنُ الزنجيّ: وينقسم هذا المكون إلى ثلاث إثنيات مختلفة، يجمع بينها اللون والدين والثقافة الإسلامية و هي "التكارير" و "آسوانك" و "الولوف".
-التكارير: أكبر مجموعات المكون الزنجي، وهم خليط من أصول آسيوية يمنية حميرية (إفلان) وأصول إفريقية زنجية انضمت إلى قبيلة إفلان خلال توسعها الديموغرافي وهجرتها عبر العديد من البلدان والمناطق الإفريقية المختلفة مشكلة ما يعرف بقومية "الهال بولار" أي الناطقين بالبولارية وهي لغة إفلان الذين يشتركون في كثير من سمات الحياة ونمط العيش مع البظان.وقد أكد باحثون تتبع نسب بعض عشائر هذه المجموعة إلى عقبة ابن نافع الفهري، كما كان لهذه المجمعة دور ريادي في مقاومة المستعمر وفي نشر الإسلام وتعليم اللغة العربية في غرب ووسط القارة الإفريقية.
- آسوانك: من أوائل القوميات التي اعتنقت الإسلام بغرب إفريقيا ولغتهم السونوكية، وهم سلالة إفريقية عريقة في المنطقة من بقايا إمبراطورية غانا في الجنوب الشرقي الموريتاني، التي قامت على أنقاضها دولتا (فوته والمرابطين). من المميزات الجامعة بين أفراد هذه المجموعة أنهم قوم اشتهروا بالاستقامة في العمل وصعوبة المعاشرة و بالغيرة على التقاليد والثقافة وبالانزواء رغم اندماج بعض السلالات و العشائر العربية المحلية ضمن التشكيل المجتمعي للسوننكي. وهم حسب بعض الروايات من سلالة نبي الله سليمان عليه السلام، وقد تواترت الروايات المرجحة على أن السوننكي جاؤوا من مصر و تحديدا من أسوان، حيث تحدثت تلك الروايات عن صلات بينهم و بين قبائل النوبه، مؤكدة أن أصل السوننكي من “أسوان” المصرية.
- الولوف: أقل مجموعات هذه المكون ولغتهم الولفية وهم مجموعة عرقية زنجية عريقة في منطقة غرب إفريقيا إذ تنتشر أساساً في السنغال وغامبيا وبشكل أقل في موريتانيا وتعتنق غالبية الولف الدين الإسلامي لاسيما ولف موريتانيا الذين يعتنق كلهم الإسلام.
و تتقاسم مكونات الشعب الموريتاني مشتركات أساسية من شأنها ضمان وحدته وتماسكه، فكل مكونات الشعب تشترك في : وحدة الدين الإسلامي وكل ما يعزز تلك الوحدة كالمذهب والفقه والعقيدة وطرق التعليم وأساليب الدعوة، وكل المجموعات تتبادل العلوم والمعارف عبر المحاظر والمساجد، وكانت اللغة العربية لغة الدين والتعليم والعبادة من أهم المشتركات التي حملت كل المكونات لواء تعليمها ونشرها وإتقان علومها والدفاع عنها، كما اشتركت هذه المكونات في الكثير من العادات والتقليد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فتبادلت التأثير والتأثر في مجالات المشيخة المحظرية والتصوفية والزعامة الدينية والقيادة الجهادية ، وفي مجالات الفن والموسيقى وطرق الرعي والزراعة ونمط الزى والتجميل وغيرها ، كما كان لعامل الجوار وتداخل مناطق الانتجاع والزراعة والسقي والأسواق دور بارز على تأكيد أهمية المشترك الجغرافي، وقد لعب المشترك التاريخي -أيضاً- دورا حاسما في خلق هذا التمازج الثقافي والاندماج الإثني والتكامل الاقتصادي التي شكلت عبر العصور عوامل استقرار ودوافع تعايش سلمي بين المكونتين.
2- يمكن تلخيص أبز المعقبات التي تواجهها الوحدة الوطنية في:
︎- سيطرة وتحكم آليات وأدوات المستعمر في تفاصيل الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية وتسييرها وتوجيهها وفق خطط واستراتجيات لمناهضة التجانس وتعيق هوة التباين وزرع بذور الشقاق والتشرذم بين مكونات الشعب، لمنع الاستقرار السياسي واستنبات حواجز منع لحمة وتماسك الجبهة الداخلية حتى داخل المكنة الواحدة.
ومن أهم وأمضى سياسات المستعمر وأدواته تلك:
- سياسة الحماية والدفاع عن للغة الفرنسية ونشرها لفرض واقع (أنت تتكلم لغتي أنت تنتمي إلى مجموعتي) لأن اللغة تشكل جهاز الإدراك عند الفرد وتحدد زاوية نظرته إلى العالم.
- التمكين لأعوانه وبقيا فلوله لعزيز واستمرار نفوذهم داخل الأجهزة الإدارية وتموقعهم في مفاصل الدولة.
︎- سوء تسيير التناقضات التي تعبر عن التنوع الثقافي والعرقي بسبب عجز النخبة وفشل نظام التربية والتعليم وغياب دور دولة الموطنة... وكنتيجة حتمية لأداء هذه العوامل مجتمعة برز تحد ومعوق أخر أكثر فتكا وتدميرا متمثلا في هذا التنامي المتصاعد لتحد الخطابات الفئوية والشرائحية والعنصرية...
فبأي مقاربة نتمكن من نشر وعي وطني بحجم هذه الإختلالات التي تبرز نتؤاتها اليوم كالطفح في جسد المجتمع الواحد، وصياغة الإنسان الحر والإيجابي في تشكيل ملامح مجتمع الوحدة والتقدم والريادة...؟
وعلى أي فلسفة نعتمد في تحديد قواعد توازن القوى والأسس التي ينبني عليها توزيع السلطة والثروة بالقسط في المجتمع... ؟
وإذا كانت هناك تجربة قد أكدت على شرط صيانة حق الفرد والمجتمع، وإشاعة العدل والمساواة، وعلى أهمية تبادل المواقع بين الأسباب والنتائج في معركة البناء والتنمية، وأثبتت أن من شأن ذلك تحقيق أسباب اللحمة والتكامل بين مكونات المجتمع وصولا إلى الوحدة والاندماج... فهل تمنحنا الترياق والمَصْلَ الذي نبحث عنه ونحتاجه كوصفة لعلاج هذا الواقع المعقد...؟