لعل من المهم التركيز على القضايا الفكرية، والظواهر التاريخية التي وردت في النص الروائي الذي ركز على عدة ظواهر منها الديني، والاجتماعي، والنفسي، والاقتصادي، والحضاري، فضلا عن الوظيفة الأدبية للنص التي أشرنا في الحلقة السابقة إلى أنها ليست من اختصاصنا، ولها بحاثها الأكثر قدرة على اكتشاف محتواها الادبي من باحث في علم الاجتماع التاريخي..
أما الجانب الديني، فهناك نقاش دار بين ابطال الراوي حول مشروعية " ثورة العبيد"، من طرف افراد من ذات الشريحة، كما وردت مصطلحات، كالحق الطبيعي، وغيره من المفاهيم التي تحيل الى مرجعيات الثقافة المعاصرة، واستنطاق الابطال بوعيها، وهو وعي حديث لتيارات الفكر العربي الحالي، والغربي المعاصر، إذ أن الفكر التشريعي الغربي طرح الحقوق الطبيعية، وغيرها منذ التشريع الروماني، كحادثة " انتيغون" عن حقها في مخالفة التعليمات التشريعية التالية، على حقها الطبيعي السابق على التشريع الوضعي، وقد خول لها الحق الطبيعي القيام بدفن أخيها، وعلى إثر تلك الحادثة، ظهر اتجاه في التشريع تحت عنوان القانون الطبيعي في مقابل التشريع الوضعي..
كما أن تسويغ الثورة بالنظر الى مشروعيتها من الناحية الدينية، لم تكن من افكار النهضة العربية الإسلامية الأولى، وموقف الامام مالك معروف من عدم قبول الخروج على الحاكم "وإن كان عبدا حبشيا"، كما في الأثر، كما ان نقاش حرية الاختيار عند المعتزلة، كان لتبرير شرعية ما كان قد لقيته المعارضة ل" المأمون"، وأن تعذيبهم من طرفه، هو قضاء مصيري مكتوب عليهم، كما أن نظرية "كسب" الفعل عند الاشعري، كانت نسبة الفعل الى الفرد بإرادته التي لقيت العناية الربانية،،
وهذه من الابعاد الفكرية في فكرنا العربي الاسلامي، إلا إن " ثورة الزنج" في العصر العباسي في الجنوب العراقي التي قاومت السلطة لمدة سبع عشرة سنة قبل القضاء عليها، لم يرد ذكرها في النقاش الديني الذي اورده المنظر السياسي موسى ولد ابنو على لسان ابطال نصه الفكري من أفراد شريحة العبيد الاجتماعية، والملاحظ في فكر المؤلف هو اشتراط مشروعية الثورة دينيا، وليس اجتماعيا فحسب، بل كان وعي "فارا" ذاتيا منذ بداية الرواية، وتم تطويره في استثارة الغرائز العاطفية، ذلك أن " فارا"، اقتنع بالثورة عن طريق عشيقته اثناء الخلوات معها في الكهوف في الجبل المطل على مدينة " أودافوست"، وهذا لاينفي كون فكرة الثورة تم نقاشها من طرف زملائه من أفراد تلك الشريحة المستعبدة، لكنها كانت أصواتا هامشية،، فتطور الوعي لدى " فارا"، وكان نضوجه تحت المعاناة، و المشاهد التراجيدية خلال المعاملات القاسية معه، ومع افراد شريحته في القافلة التي بيع لأحد افرادها من مدينة " أودافوست"، وكان هروبه النهائي من العبودية تفعيلا للوعي من الصراع الذهني الى اتخاذ موقف فعلي، وإن كان تم ليلا في اشارة الى عدم وجود رؤية تحدد اتجاهه في نضوج وعيه الانقاذي الذي انتهى بموته ..
وفي الرواية إسقاط الحاضر على الماضي، بينما الوعي السياسي المتنور، هو القطيعة مع الماضي في مجال النظام الاجتماعي العام، وابتكار حلول غير جزئية، تستجيب لمطالب المجتمع، وفئاته الشرائحية، ونهضته بالتوفيق بين فكر النهضة العربية الأولى في جانبه العقلاني، والتنويري، وفكرنا الاجتماعي السياسي العربي في تياراته الثورية، وذلك من اجل تأسيس رؤى ـ وليس رؤية واحدة ـ تستجيب لمطالب الاجتماع العربي في التطور والتنمية، والاستقلال تجاوزا للتبعية في جميع أبعادها.
أما النقطة الأخرى في مجال الوعي الديني، فعن الإشارة الى " الأباضية" في النص التاريخي الذي اقحمها في التشريع المذهبي لمجتمع الصحراء، غير أن الاباضية لم تدخل حتى في تيارات الفكر في المغرب الوسيط، الجزائر، وهذا يحتاج من الروائي الى مراجعة تلك الفقرة في الطبعات التالية نظرا لما فيها من مغالطة تاريخية، ذلك أن الأباضية لم تصل الى مجتمع الصحراء، وانحصر وجودها تاريخيا بعد عصر الولاة الأمويين في تجربتين لنظاميها مع بني رستم(160هـ ـ296 هـ)، وبني برزال(404 هـ ـ 459هـ ) في الأندلس، حيث تم طرد قائدها السياسي من الجزائر على يد الفاطميين في بداية القرن الرابع الهجري.
وربما كانت تلك الاشارة الى الاباضيين في مجتمع الصحراء باعثا للاهتمام بهذا المنتج الأدبي الفكري من طرف جمهور واسع في الجزائر لتأريخ دور انتشاري للاباضيين غير مذكور في الفكر السياسي المغاربي العربي، ولا يستغرب أن الاهتمام بالرواية في الجزائر رائعا، كان لفكر صاحبها الاكتشافي الذي قد يوازي عند البعض القيمة الفكرية لتراث "مفدي زكريا" شاعر الثورة الجزائرية، وقد قدم باحثان نصها في بحثين علميين، لنيل شهادة الماجستير، كما وجد النص اهتماما آخر من باحث مغربي لنيل درجة "ماجستير"..
والنص الروائي جميل، ويستحق الاهتمام به، الأمر الذي جعل من اهداف هذه القراءة، هو تقديمه لقرائنا في المواقع الافتراضية، وذلك لينال قراءة موضوعية، ترى في التصويب تنويها، ونزعا للطفيليات من الأعشاب في هذا الحقل الفكري ،،
مثل التنبيه على سلم التحضر لمجتمع بطل الرواية المحوري " فارا" المباع بقدمين من الملح، وهو القادم من القرية، وكان يمر ب"المزارع " في إشارة الى مستوى من التطور الحضاري المتقدم على مرحلة الالتقاط والصيد، وهي المرحلة المفترضة لمجتمع البطل، لذلك فالإشارة الى المرحلة الزارعية، قد لا تشكل قراءة تاريخية مقنعة، لأن المجتمعات الافريقية المجاورة لمجتمع الصحراء، كانت أقل تحضرا على مستوى التطور التاريخي، فإذا كان مجتمع " فارا" في المرحلة الرزاعية، فهو بذلك في مرحلة الاقطاع السياسي المتملك للضيعات، والأقنان بدلا من العبيد، وكان يقابلها ـ مرحلة الالتقاط والصيد ـ المرحلة الرعوية في مجتمع الصحراء فيما اوضحه المؤرخ الجغرافي" ابن حوقل" في القرن الرابع الهجري، و" والبكري، في القرن الخامس، وهي المرحلة التي أشار اليها الراوي باسماء بعض ابطال الرواية ك" تولوتان"، وهو اسم ملك الأحلاف اللمتونية فى القرن الرابع الهجري، كما أن التجارة بقوافل الملح بين مدن مجتمع الصحراء، وغيرهم، لا تعبر عن المرحلة التجارية المتقدمة، بقدر ما هي نشاط اقتصادي تابع للنظام العام في المجتمع الرعوي.
وفي الأخير لا بد من الاشارة الى أن الدكتور موسى ولد ابنو لم يكن متعاطفا مع بطل روايته، وإن حصل إسقاط الحاضر على الماضي احيانا، إلا أن موقفه النهائي، يمكن تحديده من تطويره لوعي البطل " فارا" الذي اختار له نهاية مأساة، كالموت على واحد من التلال الصحراوية، أو الجبال، ولم يطور الوعي الجمعي لأفراد الشريحة في القافلة، ليقدموا على تصفية ملاكهم، ولا تكن حادثة اعتداء أحد العبيد في قتل مالكه حالة فردية، بل تكن عاملا لإثارة النعرات داخل القافلة، وبالتالي سيطرة العبيد عليها باعتبارهم اكثرية، وهذا خيار لو حصل لكان يعبر عن التعاطي الإيجابي مع الشريحة التي كانت موضوع الرواية، حتى لا تكون مجرد إطار روائي ليس اكثر، حسب تقديري الشخصي، ويبقى النص الأدبي، والفكري، نصا مفتوحا على القراءات المتعددة، ونتمنى قراءته من طرف اقلام إدبية، وفكرية أخرى..