في آخر المقال السابق كنا في أول الركن الثاني من الصوفية وهي الأوراد أي الأذكار التي يلقنها الشيخ الإنسان للتلميذ الإنسان ويلقنها أنها فعلا ذكر الله من تسبيح أو تحميد أو صلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم، ولكنه ينسبها بعد ذكرها وتمام تلقينها أنها هي ذكر وأوراد رجل خاص سبق له أن عاش في الدنيا وذهب إلي ربه كما هي النهاية لنا جميعا، أما مبتدعة من إنشائه أو ملفقة من أذكار أخرى، هذه الأذكار أشرت فيما سبق أن مثلها وليس عينها هي التي لقن الرسول صلي الله عليه وسلم لأمته كلها أي لأصحابه ومن يأتي بعدهم، فتلك هي سمة رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه أرسل لقومه ولكل إنسان مولود في زمنه وكل من يأتي بعد ذلك يقول تعالي : {{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}}.
وتأويل هذه الآية أننا مأمورون بفعل هذه الأذكار الصادرة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وهي كما هو مسطر في جميع كتب الأذكار الصحيحة "سبحان الله وبحمده" مائة مرة صباحا ومساء" و "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير}} مائة مرة كذلك في نفس الوقت وهناك أذكار أخرى صحيحة عن النبي صلي الله عليه وسلم علي المسلم أن يذكر بها مع الأذكار أعلاه منها قوله : (لأن أقول سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) وفي رواية أحب إلي من حمر النعم.
ويؤكد الرسول صلي الله عليه وسلم هنا أن التسبيح أعلاه من قاله لم يأت أحد بأفضل منه إلا من زاد علي العدد المحدد وهو مائة مرة بمعني أن النبي صلي الله عليه وسلم فتح لكل مسلم باب تسبيح الله امتثالا وتصديقا لما قال هو إلي ما لانهاية من التسبيح.
وكتبت متسائلا أعلاه هل أوراد الإنسان التلميذ التي أمر بها من طرف شيخه الملقن تقال قبل الوقت المحدد لأذكار الرسول صلي الله عليه وسلم أو بعدها أو لا تدخل الأوراد أصلا، علما بأن هذا التوقيت الموحد حدده للنبي صلي الله عليه وسلم الله جل جلاله يقول تعالي :{{وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار}} ولأهمية التسبيح في هذا الوقت ولكثرة لغات العرب فلم تبق لغة إلا ورد بها فتارة يقول :{{بكرة وعشيا}} وتارة {{حين تمسون وحين تصبحون}} وتارة {{بالغدو والآصال}} إلي آخر ما في القرآن من تنوع هذا التعبير الذي لا يخرج كله عن وقت واحد وهو الظرف المعين من الله لأداء الذكر الصادر من النبي صلي الله عليه وسلم ، ويلاحظ أن هذه الأوراد أًصلها منسوب لرجال توفوا بعد النبي صلي الله عليه وسلم بقليل أو بكثير إلا أنه هو مشرع من عند الله، وهم موقعهم أنهم تبع لشريعته لا نوابا عنه في التشريع، فهل من المعقول القيام بأداء أذكارهم وترك أذكاره هو صلي الله عليه وسلم.
وكما ذكرت في بعض المقالات أعلاه أن العقيدة والعبادة الموجودتان في قلب الإنسان والمؤدية بأعضائه ثابتة بوحي الله وتبليغ الرسول صلي الله عليه وسلم لها بخلاف المعاملات بين الإنسان والإنسان في الدنيا فتلك تتغير حسب المصلحة الحاضرة للإنسان وأشار الله إلي ذلك كثيرا فقال :{{ولا تنسوا الفضل بينكم}}، {{فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }} إلي قوله تعالي: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}}، وهذه القواعد فسرها النبي صلي الله عليه وسلم بكثير من الأحاديث منها (الضرر يزال) ، ( لا ضرر ولا ضرار) إلي آخر ذلك، وطرح لها الفقهاء المجتهدون قواعد عامة منها : "أينما تكون المصلحة فثم شرع الله" إلي آخره.
فهذا هو ميدان الأئمة الأربعة في فقه حياة المسلمين ولهم الحق في ذلك، أما المتكلمون في العقيدة والعبادة التي مصدرها الصوفية فقد فتحوا بابا في الدين لا يوجد مصدره واضحا في الصراط المستقيم الذي أتمه الله قبل وجودهما علي الساحة الإسلامية.
وجميع أدلتهما المنسوب مدركها للقرآن أو الحديث ففيها ما يقال، فهما لا اجتهاد فيهما، فالعقيدة هي التي في القرآن وهو الإيمان بالغيب بكل ما في القرآن من خبر أنزله الله علي رسوله والتوقف عن معرفة أي علم لم يخبر الله به وإلا فالتجاسر علي غير ذلك كفر كما بينه لنا الله كثيرا في تصرف الأمم التي قبلنا يقول تعالي:{{وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا}} يرد عليهم المولي عز وجل {{ أأشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون}}، وفي آية أخرى {{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}} فيجيبهم الله {{أتخدتم عند الله عهدا أم تقولون علي الله ما لا تعلمون}}، والقول علي الله بغير علم بين الله في كتابه قبحه وشدة حرمته وجمع في ذلك بين انحراف العقيدة وانحراف العبادة يقول تعالي: {{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا علي الله ما لا تعلمون}} وسلطانا في الآية تحتها خط لأنه عبارة عن الحجة والدليل غير الموجودين إلا بنص وهو السلطان.
وكذلك فإن العبادة إذا لم تكن تحت نص شرعي فتسمي في عرف الشرع "بدعة" كما قال صلي الله عليه وسلم : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
فالعبادة لا بد أن تكون هي نفسها صادرة من رسول الله صلي الله عليه وسلم بإحدي الصيغ التالية: القول أو الفعل أو التقرير.
فلا شك أنه في زمنه صلي الله عليه وسلم أٌقر أذكارا وأدعية لم تبدأ منه وقد بدأت من غيره ولكنه لما سمعها أقرها مثل حمد الله بعد الرفع من الركوع ومثل (( اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ،،، إلي آخره))، فمثل هذه الأحاديث لما سمعها سأل عن قائلها أي الذي أجراها الله علي لسانه فعندما أخبر به أقرها وذكر في نفس الوقت قبول الله لها.
ولكن بعد وفاته صلي الله عليه وسلم انتهي نهائيا وإلي يوم القيامة الزيادة في التشريع لقوله تعالي : {{اليوم أكملت لكم دينكم }} ولقوله صلي الله عليه وسلم للصحابة أن جبريل أتاهم يعلمهم دينهم ولحديث حجة الوداع المتقدم ذكره.
أما محاولة الإنسان الزيادة أو التغيير في العقيدة أو العبادة فذلك عنده مدرك آخر قص المولي عز وجل علينا في كتابه المنزل أن أصله هو التزام الشيطان إضلال هذا الإنسان بقعوده علي الصراط المستقيم وترجم المولي عز وجل ما قاله بأوضح عبارة في البلاغة العربية من العزم علي الفعل فأتي بلام القسم ونون التوكيد ويشير إلي الإنسان بالمرور خارجه وفي نفس الوقت يزين له الشيطان أنه علي الحق :{{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }}،{{وكذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلي ربهم مرجعهم}}.
ومن يزين السوء والمنكر في العمل إلا الشيطان يقول تعالي {{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم من الناس}}.
ومن أراد التوسع في معرفة المعركة اليومية بل الدقيقة الحامية الوطيس بين هذا الإنسان والشيطان والخفية إلي حد أنها تبدأ من القلب لتصل إلي الجوارح وأكثر الموجهة إليه من الشيطان من يحاول التمسك بالنصوص المنزلة من عند الله والمبلغة من النبي صلي الله عليه وسلم ولا سلاح لهذا النوع من الإنسانية إلا تلك النصوص يقول تعالي: {{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلي صراط مستقيم}}، أما الآخرون فقد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.
وبهذه الآية أنتهز الفرصة لأقول أن ذكر الله الذي يحاول الشيطان أن ينسيه للإنسان هو ذكر الله المنزل بالوحي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول تعالي :{{فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك علي صراط مستقيم}} وأمره من ربه أمر منه لنا ما لم تأت خصوصية له.
وإلي الحلقة القادمة بإذن الله : كيف نفهم الإسلام (14) الصوفية (10)