قد لا يخفى على كتابنا المحترمين، أن الثقافة الاجتماعية، يتم التركيز عليها في مباحث علم الاجتماع التاريخي، وهو غير الانتروبولوجيا الثقافية الغربية التي اهتمت بالهامش المنسي، والتافه، كالطقوس، والفلكلور الشعبي، ونظام القرابة، والقيادة القبلية المتوارثة، وغيرها من مظاهر التخلف الثقافي في المجتمعات الأولية،،
وليس هو ـ علم الاجتماع التاريخي ـ من التاريخ السياسي الذي يرصد المؤرخ فيه الحوادث، كسقوط الانظمة، وصعود الأخرى، وما يتم خلال ذلك من تلفيق من طرف مؤرخي نظام الحكم، كالذي قدمه" المقريزي" عن نظام المماليك في مصر، وغيره من المؤرخين المزيفين للحقائق التاريخية التي تستعصي على الإخفاء في ثوب الدعاية الشفاف المتداولة في كل الازمنة من تاريخنا العربي، كما في حاضرنا الحالي الخاص في كل قطر، كما العام في حاضر الأمة،، وكل سقوط لقادة نظام الحكم، كلما ظهر ت المثالب التي كانت تخفى بغربال الأكاذيب التي وظف لها الاعلام المرئي، والمسموع، وحتى الحر الذي يتفاعل معه الرأي العام اكثر من غيره، وذلك في إشارة من الأخير للهروب من الدعاية المجانبة للحقائق التي تطفو على كل دعاية مهما التصقت في اذهان الناس، فلا تلبث أن يحيدها الغياب في الواقع اليومي في حياة الفرد والمجتمع ..
ولعل الأمر يستحق التضحية في القراءة الموضوعية التي لا تهدف الى التجريح، أو التقليل من القيمة المعرفية لما يقدمه كتابنا في اجتهاداتهم المقدرة، ودورها في بناء حركة الفكر التنويرية..
ولأن الثقافة الاجتماعية هي مواد معرفية مشتركة بين المؤرخ للأحداث، والمهتمين بالتاريخ الثقافي للمجتمعات،، وعليه فهناك تصنيفات أولية يمكن أن توجه زملاءنا الذي يشكرون على ما قدموا ـ ويقدمون ـ في مجال التوعية، وتشكيل الميول النفسية، والاتجاهات السياسية، والآراء الموجهة للرأي العام الوطني، وتصويب اتجاهات الثقافة العامة، والكشف عن مظاهر من واقع المجتمع، كظروف الأسرة الموريتانية، أو الفرد، أو عامة الناس في القرى، والمدن، والسلوك الاداري، والأداء السياسي، ونظام التعليم، والطبابة في سلوك الطبيب مع المريض، والإداري المرتشي، والشرطي المنظم لحركة المرور، والاعتداءات غير المبررة التي يخص بها المارة من اجل استلاب الرشى منهم، وتقلب الاسعار في الاسواق في المواسم، وخلال أيام الاسبوع، وفي حالة الندرة للمواد الاستهلاكية، والكمالية..
والمؤرخ الثقافي سواء أكان موضوع دراسته في الماضي، أم في الحاضر, فهو حين يجمع المواد من التراكم المعرفي في المواقع الافتراضية، ينبغي أن يقوم بخطوات أخرى تباعا، وبعضها يتعلق بالتصنيف المرتبط بتقييم المادة المعرفية، فما كان منها في مجال الدعاية السياسية، لن يكون مصدر ثقة المؤرخ، لأن صاحبها لا يعكس اتجاهات سياسية عامة، حتى يهتم بكتابته, كمؤرخ سياسي يربط الأحداث بالسياسة العامة، ولا هي مادة خبرية، ، تقريرية، لتعكس الواقع القائم، وإنما هي آراء تعكس رغبة كاتبها فقط، كحالة استثنائية، ولا تعبر عن اتجاه ل " عينة" ممثلة للرأي العام، وأمثال هذه الكتابات، لا قيمة له في مجال التأريخ للثقافة العامة..
وهل من النصح الأخوي تذكير بعض زملائنا لتلافي احكام التاريخ ـ التي لا ترحم ـ ولو بعد وقت طويل ناهيك عن السخرية، والنكتة الاجتماعية التي تشكل عقابا جماعيا غير مادي، رغم تأثيرها المعنوية..؟
والمؤرخ الاجتماعي في المستقبل، هو باحث عن الحقائق في مصادر عديدة، وهو حيادي، وليس لديه الميول القبلية، والجهوية، ولا يقدر العلاقات الشخصية السائدة، ولن تدفعه عاطفة جامحة، ككتاب الدعاية الذين، يتجشمون هذا العناء مقابل مكانة اجتماعية بين رجال نظام سياسي ما، كالذين شايعوا نظام الحكم في العشرية الماضية، وقبله شايعوا عهد "التطبيع" مع الكيان الصهيوني، وقبله شايعوا نظام " الهياكل ، وتهذيب الجماهير" الإسمي، و قبله شايعوا النظام المدني الشرعي الذي قاد حربا اقليمية بلا سلاح للمواجهة، ولا مبررات موضوعية غير التعاطف مع الجيران الشماليين،، كما ساعد المشايعون أخيرا بعد كل نظام انتهت دورته في الكشف عن أخطاء أنظمة الحكم خلالها،، وكان انعكاس ذلك على الثقافة العامة، هو غياب المشروع التنويري الذي يؤسس للثقافة وللوعي السياسي العام بتقديم حقائق الواقع لفهمها وتفسير عوامل التاثير، ومواجهتها بحلول عملية، غير أن غياب ذلك خلال ستين عاما وعامين، فرض تلك النتائج الصفرية، وحول فكر المثقفين الوطنيين الى أصوات متفردة، غير مسموعة، وإن سمعت، كانت مواجهتها للواقع لا تساوي التأثير الذي احدثه الشرخ العام جراء الدعاية المضللة لأنظمة الحكم. !!
ومن المعارف التي لا تنطلي على الوسط الثقافي في مجتمعنا، أحرى الكتاب الذين يعرفون أكثر من غيرهم هذه الحقائق الموضوعية، ولكن علينا أن نذكرهم ـ لعل الذكرى تنفع ـ بهذه الحقائق، حتى تكون لكتاباتهم قيمة ثقافية أكثر منها سياسية، وهذا هو الرصيد لمستقبل الثقافة على مستوى الحاضر في بلادنا،،
ومن أجل ألا تكون اللحظة السياسة العابرة غايتهم المشروطة بالمقابل المادي، أو الوظيفي لإشباع "الجوع النفسي" الموجه للتفكير نحو مطالب البطن، لتغمض العيون في لحظات قصيرة من تاريخ المجتمع، فتضيع على الكاتب فرصة تسجيل اسمه للمشاركة في التحول الفكري المتنامي،، وليس من شك في أن الكتاب الذين يكتبون في المواقع الموريتانية، يسخرون أقلامهم الوطنية من اجل حاضر أفضل للوطن والمواطن، والدفع بالمشروع الثقافي الى عصر الحداثة، وبالمجتمع الى التغيير لمواكبة حركة التاريخ الوطني، والقومي العام..
أما المواقع الافتراضية فلا شك أن القائمين عليها يبذلون جهودا مشكورة، غير أن من المؤسف عليهن، هو استرزاق بعض المواقع بالدعاية من اقطار الخليج المحكومة بانظمة ليس لها من سلاح غير تصدير الدعاية العمياء التي لن تقيهم لا في اقطارهم، أو غيرها شرور سياساتهم الاتباعية، و" المطبعة" الخيانية، والمحرفة لمقاصد الشرع: كاختلاف مقاصد الدين الإسلامي ببديل تحريفي شعاره " السلام" بدلا من التوحيد بالله الواحد الأحد،، و يسمى زورا بالابراهيمية الوثنية..
وحتى لا يبقى الحديث تجريديا، سنعرض لمثالين، وللقراء الكرام أن يقيموا النصين التاليين، وما إذا كان الكاتبان عبرا عن الواقع في المادة المعرفية حسب تقدير القراء الكرام، والمؤرخ الاجتماعي للثقافة فيما بعد..
وقد كتب الدكتور "المصطفى أفاتي" في مقاله المنشور في موقعي " اقلام" و " موريتانيا الآن" متحدثا عن شخصية اجتماعية ذات دور مؤثر في الحياة العامة، ذلكم هو دور تاجر التقسيط الذي لم يذكر إلا قليلا في القصص القصيرة للمبدعين،، بينما غيب دوره في مجال الصحافة، والإعلام الحر، فلا ذكر للتاجر البسيط الذي يساعد الفقراء، ومتوسطي الدخل على حد سواء على الرغم من أنه شخصية محورية في مجتمعنا، و تعكس علاقاته مع مختلف الأفراد في الحي، والقرية، المشاكل الاجتماعية، والنفسية، والسياسية، والثقافية للوسط الذي يتفاعل معه...
وعلى لسان واحد من تجار الحي، ننقل الاقتباس التالي: " أنا أعرف كل شيء في الحي،، أعرف رواتب آباء الأسر، والعاطلين منهم عن العمل،، أعرف مدارس أبنائهم، وتكاليف دراستهم... المطلقات والمتزوجات.. واعرف أمراض سكان الحي جميعا، ومشاكلهم..
واعرف من يتعاطى المخدرات في الحي.. دفتري هذا يحمل هموم المواطنين ومعاناتهم..!"
بينما كتب الدكتور "محمد ولد عابدين" في مقاله المنشور في كل من موقعي" موريتانيا الآن"، و"اقلام " واصفا الأوضاع العامة في بعدها السياسي بما هي عليه، ومتمنيا تطويرا لها يكون للصالح العام،، ونقتبس من مقاله ما يلي : " و لا، مراء في أن الظرفية تتسم بجملة من الخصوصيات الإيجابية وعوامل القوة القادرة على الدفع بالبلد الى آفاق رحبة من التنمية والازدهار وفي مقدمتها ما تتسم به المرحلة من خصوصية في نمط الحكامة وانفتاح يتخذ من الحكمة والحنكة اسلوبا، ومن الرزانة، والرصانة منهجا، ومقاربة في التعاطي مع الشأن العام، وقد ترتب على ذلك غياب وجود ازمة سياسية، واختفت نهائيا من المشهد لغة الاستقطاب، وخطاب الاحتراب، بيد ان ثمة تحديات كبيرة في مجالات أخرى اقتصادية واجتماعية، ولعل في مقدمتها تحدي الجائحة الصحية التي ضربت الاقتصادات العالمية، وعمقت أزمة الغلاء، وصعوبة الحالة المعيشية فضلا عن التحديات التنموية، والامنية، والمخاطر الجيو ـ استراتيجية المحدقة الناجمة عن بعض حالات التوتر في الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا".
هذان النصان، اتفق الكاتبان فيهما على تقديم صورة حية عن الواقع بدون رتوش الدعاية السياسية، غير أن الكاتبين اختلفا في الرؤية في نهاية مقال كل منهما، فالدكتور ‘المصطفى أفاتي‘ حدد استنتاجه في أن :" أحد رجال الحي تم توشيحه قبل أيام وجاء مزهوا الى بيته وفي المساء حضر اقاربه الى منزله للتهنئة، فجاء واخذ الكثير من المشروبات، والالبان، وفي نهاية الشهر زادت المبلغ المسجل في الدفتر، وعجز عن تسديده..
أفكر في دخول السياسة لكنني أخاف على رأس مال "البتيك" ".
وفي النص كشف مبين عن أن السياسة مصدر تفقير، وهذا عكس ما هو رائج عنها، كونها مصدر غنى، وحظوة، وتعزيز للمكانة الاجتماعية قبليا، وجهويا، وصعودا حارقا للمراحل ـ والعوائق كالكفاءة، والنزاهة ـ في سلم الوظيفة العامة الى الاعلى، كالوزير احيانا، والكاتب العام في الوزارات، والوظيفة في المصارف، وصندوق الضمان الاجتماعي.
فهل هذه المعلومة الواردة في المقال الاجتماعي ناقصة في "التوسل " بالسياسة من أجل الالتحاق ب" النجومية" في أنظمة الحكم، بدلا من التقوقع في " الثرى" في وسط المجتمع؟
فلو أن الكاتب، اسهب في هذا المجال لكان المقال من أهم الوثائق المعتد بها في حياة مجتمعنا، ولكن ذلك لم ينف قيمته الفكرية الحالية.
بينما كتب الدكتور ‘محمد ولد عابدين‘ في خاتمة المقال النتيجة التالية: " وختاما ‘‘تبدأ آفاق العمل الحكومي‘‘ واعدة، وهي مصممة طبقا لرؤية استشرافية عميقة، وتشتغل وفق مقاربات مستقبلية ‘ قد لا تجنى فؤائدها، او تقطف ثمارها بين عشية وضحاها ‘ غير أن جملة من المشاريع الهامة، ‘ سيتم ‘ انطلاقها لتواصل المسيرة بخطى واثقة، ورصينة، ومتدرجة على درب التنمية، والازدهار انطلاقا من نظرة استراتيجية عميقة، وخطة تنموية محكمة، تنتهجها السلطات العليا مستعينة بالله العلي القدير، ومتسلحة بالإرادة السياسية الصارمة، والصادقة في سبيل النهوض بهذا الوطن الحبيب وجعله فضاء للانجاز، وحاضنة للتنمية."
ولعل الإشارات التي ادخلناها على الاقتباس، هي لتوضيح بنية الرؤية القائمة على بداية العمل الحكومي في الأفق، الانتظار، الوعود، التسويف،، وذلك أن الكاتب لم يصرح بأن العمل الحكومي استؤنف في الواقع، بل في الآفاق، ثم زاد مبررا في الاشارة الى الاستثناء: ‘‘ غير أن جملة من المشاريع الهامة، سيتم انطلاقها‘‘ في تقدير الكاتب..
إن هذا التقديم، التفكيكي للرؤيتين، هو من أجل الكشف عن ظواهر الواقع في المقالين بالنظر الى ما نشاهده نحن معهما في المواقع الأخرى، وفي الميادين العامة، والاحياء، والحارات، واحوال الناس، وهي المراقب العام للسياسة ومن يسوسون.
وعلى القارئ الكريم أن يجعل نفسه في منزلة المؤرخ الاجتماعي في الواقع، وذلك لتقييم كل من النصين المعبرين عن الواقع المعيشي، والسياسي العام، وتقييم دور الكتابة الواعية في بناء الصرح الثقافي، وتشكيل الوعي لدى الرأي العام بالمعلومة الصحيحة بدلا من الخاطئة، أو الدعائية، أو الناقصة،،وكل ذلك في سبيل الوطن العزيز على كل منا ..
وكامل الاحترام والتقدير للكاتبين المبجلين بالمعزة مني شخصيا، كما من القراء الكرام.