شهد قصر المؤتمرات يوم الإثنين 11 فبراير 2013 حشدا جماهيريا ضخما دعا له رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير للإعلان عن مبادرته لحل الأزمة التي تعيشها البلاد،جمع فيه مختلف التشكيلات وشتى الفعاليات وشركاء العملية السياسية موالاة ومعارضة وما بينهما،في مشهد أشبه ما يكون بحفل إعلان عن منتج جديد يروج له منتجه لأول مرة.
ولم يبخل الجميع رؤساء أحزاب ومنظمات مجتمع مدني في حضور حفل أقل ما يقال عنه إنه على مستوى وحجم شخصية وطنية مهما اختلفت معها فإنك لا تستطيع أن تتجاهل وزنها واحترامها الذي لم يعد محل خلاف.
المفارقة العجيبة التي كان أغلب الحضور يغضون عنها الطرف عمدا أو كيدية هي أنهم على علم بتفاصيل المبادرة ويعلمون أن صاحبها لم يضف لها جديدا بل أكثر من هذا فإنهم جميعا كانوا قد حددوا مواقفهم منها من قبل فما الذي استجد في الموضوع؟
الحديث المعاد
قبل حوالي ستة أشهر كان الرئيس مسعود ولد بلخير على موعد مع أحد قادة منسقية المعارضة(ليس قطعا أحمد ولد داداه )،تربطه به علاقة خاصة تسمح له بأن يفضي له بسره البعيد الذي يخفيه حتى عن رفاقه في التحالف الشعبي التقدمي،فقدم له بالتفصيل الممل بنود مبادرته للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد.
كان صاحبنا على دراية أكثر من غيره بأن مسعود الذي يخوض حملة علاقات عامة لتسويق مبادرته لم يكن في وضعية مريحة تمنحه صفة الوسيط بين الأطراف فهو غادر منسقية المعارضة بعدما تأكد أنها لا تريد الذهاب معه إلى حوار بدون شروط وهو من جهة ثانية عائد من حوار مع نظام لم يتعامل معه بمنطق الندية بل اعتبره مجرد عدو تحول إلى صديق مقابل امتيازات ولكن تلك الإمتيازات لم تمنحه موقعا يجعله قادرا على محاججة المنسقية بما قدم له من تنازلات سياسية من طرف ولد عبد العزيزالذي لم يلتزم بما اتفق عليه في حوار الأغلبية المدعمة وأحزاب المعاهدة،ما يعني أن الأحداث أثبتت صدقية دعوى المنسقية التي ظلت تؤكد أن دعوات الحوار التي يطلقها النظام شكلية وأن طبيعة الإستبداد لديه تمنعه من تقديم التنازلات.
كان رئيس الحزب المعارض على قناعة تامة بأن مسعود في حالة حرج لا يحسد عليها،ومع ذلك بادره بسؤال محرج:ما دمت تعتقد أن موافقتنا على مبادرتك ستؤدي إلى حل المشكل فهل وافق ولد عبد العزيز على مبادرتك حتى إذا وافقنا عليها أصبح تطبيقها ممكنا؟
إجابة مسعود كانت على السجية ودون خبث سياسي:"لقد قال لي في آخر لقاء معه حول المبادرة إنه لا يعتقد أن البلاد في أزمة تضطره لإشراك المعارضة في حكومة وفاق وطني؟
كانت الإجابة صحيحة ولم تكن تحتاج لدليل فالرجل الذي يحكم البلاد له تحليل آخر للموضوع الذي يختصم فيه المختصمون فالأزمة التي "يتحدث عنها مسعود و المعارضة لا مكان لها إلا في أذهانهم" انتهى الإستشهاد.
العالقون
عندما قرر ولد عبد العزيز أن يوهم منسقية المعارضة الديمقراطية أنه حزم أمره في الدخول في عملية سياسية في غيابها دعا لحشد جماهيري نال من الدعاية غير قليل لإجراء حوار وطني بين الأغلبية المدعمة وكان لديه من المعارضة حزبان فقط لحضور الحوار هما حزبا بيجل و مسعود،وكان بحاجة لمن يضاف لهما حتى لا يبدو الحوار بين"البيظان" و"الحراطين" فانتدب لذلك حزب البعثيين ورئيسهم عبد السلام ولد حرمه فانتقل حزبهم بطريقة عجيبة من الموالاة إلى المعارضة المحاورة التي دخلت الحوار طمعا في انتصار على المنسقية بعدما ظنت أنها تقدم للنظام بديلا مقبولا على المستويين الداخلي والخارجي،وهو ظن لم يكن على قدر كبير من الذكاء فالأوروبيون الذين يراقبون الوضع السياسي في البلاد عن قرب لم تحصل لديهم قناعة بإمكانية حصول عملية سياسية في البلاد دون أن تكون منسقية المعارضة طرفا فيها.
لم يكن ولد عبد العزيز يجهل هذه الحقيقة التي تبلغ بها من طرف السفراء الغربيين ولكنه كان بحاجة لأحزاب تحمل صفة المعارضة تلعب دور "الكومبارس"في مشهد يراد منه إقناع الرأي العام بأن منسقية المعارضة متجاوزة ولم تعد طرفا في اللعبة.
وضعية أحرجت مسعود الذي لا يليق به أن يظل متعلقا بوهم الدخول في انتخابات عامة تطبيقا لنتائج الحوار حيث بدا أن ذلك ضرب من الخيال،كما لا يليق به أن يعود لمنسقية المعارضة التي أحرق كل مراكبه إليها.
عقد الرجل الواقعي
أغلب الناس لا يفهم الظروف التي يعيشها رئيس التحالف الشعبي ،فهو يعاني من عقدة قديمة جديدة إسمها أحمد ولد داداه، لا يكاد يعالجها حتى تعاوده وهي لا تترك له فرصة التفكير في العودة لمعارضة يتزعمها هذا الرجل الذي يبدو أن التعامل معه من مستحيلات الحياة.
عقدة ثانية جديدة ولكنها عميقة وخطيرة على حياة مسعود السياسية فورقة الدفاع عن قضية "لحراطين" يكاد يخطفها منه بيرام ولد اعبيدي زعيم "إيرا" الذي يبدو أنه لا مس شغاف قلوب أنصاره الذين دفعهم ذوبان مسعود إلى البحث عن بديل يتمتع بكاريزما تعيد للقضية وهجها وعنفوانها.
إن مسعود الذي يستعد للتقاعد بحاجة للراحة والمغادرة بزاد يستعين به على السنين العجاف القادمة،وحجته في الأمر أن غيره من السياسيين ما زالوا يفتشون عن مستقبل يصلونه أما هو فإن مستقبله انتهى بجلوسه على كرسي الجمعية الوطنية فلم يعد قادرا على العودة لماضيه لصعوبة الخروج من المكاتب المكيفة إلى شمس المعارضة الحارقة...كما أن هذا الرجل المترهل المثخن بجراح السنين بحاجة لمسحوق تجميل سياسي يشد به تجاعيد صورته أمام رأي عام لا يغفر للمنبطحين.
نعم ولكن
ما حير المراقبين في حفلة مسعود البهيجة لم يكن دعوته لحشد عبثي يروج لمبادرة عبر الجميع عن رفضهم لها منذ ما يزيد على ستة أشهر،وإنما حضور أغلبية رؤساء أحزاب منسقية المعارضة،الذين لم يكن خافيا عليهم حقيقة المبادرة وحقيقة موقف الرئيس ولد عبد العزيز منها.
لقد قرر الجميع المشاركة باستثناء رئيس حزب اللقاء الديمقراطي السيد محفوظ ولد بتاح الذي قال في مؤتمر صحفي في نفس اليوم إنه لن يحضر لأن مضمون المبادرة معلوم له ومواقف الأطراف منها معروف سلفا ولأن حضورها لا ينسجم مع قناعته،وهو موقف موضوعي قطعا من سياسي معارض طالما طالب برحيل نظام تسعى المبادرة لمصالحة معه بتشكيل حكومة وفاق وطنية.
أما الآخرون فإنهم لم يحضروا غباء وإنما لأن كلا منهم يبحث عن شيء في المبادرة فولد مولود تبرع بالترويج للمبادرة عبر تصريح صحفي قال فيه إن أي حكومة وطنية يجب أن يرأسها وزير أول بصلاحيات واسعة..ولكنه لم يخبرنا مع من ستشكل الحكومة ما دام ولد عبد العزيز غير موافق على وجود أزمة تضطره لاقتسام السلطة وتشكيل حكومة وفاق مع المعارضة.
لقد كانت أحزاب المنسقية التي حضرت بحاجة لمناسبة تفهم فيها النظام أنها مستعدة لشيء ما،وأن ما كانت تردده من شعارات الرحيل وغيرها لا تعني أكثر من كونها مغاضبة لنظام بخيل على معارضته.
وكان مسعود كذلك بحاجة لمناسبة يثبت من خلالها أنه ما زال موجودا وأن بيرام لم ينتزع منه مكانته كما أن منسقية المعارضة ليست أكثر منه شأنا وليقول لولد عبد العزيز أن الإستهانة به ليست في محلها فهو قادر على حشد الطبقة السياسية لمبادرة تخرج النظام من مأزقه ولكنه قادر كذلك على العودة للمعارضة المتطرفة ليعمق أزمة نظام بخيل على موالاته.
لقد كان الحشد المشهود في قصر المؤتمرات هدية فدمها مسعود لنفسه ولخصومه في منسقية المعارضة ولكنها قطعا لن تضيف شيئا ولن تغير من الوضع السياسي للبلاد فالمبادرة لم تزل هي هي والرئيس ولد عبد العزيز هو هو أما الوطن فإنه الغائب الأول عن قصر المؤتمرات لأن أيا من المتخاصمين لم يفكروا فيه ولو لمرة واحدة.
اللهم لا شماتة..طيب الله ثراكم