لاشك أن أي ازدهار تجاري أو نمو اقتصادي يمر عبر الموانئ لجميع الدول. لقد عرفت بلادنا قديما ازدهارا تجاريا هاما عبر موانئها مع العالم من خلال البرتقاليين. غير أن عولمة المبادلات التجارية و الاقتصادية خلقت منافسة شرسة و فرضت على بلادنا ان تواكب الركب رغم شح مواردها المالية الذاتية مما خلق واقعا صعبا امام عصرنة وتطوير ميناء العاصمة انواكشوط، الميناء الرئيسي لبلادنا، حتى يلبي حاجات البلد و يدعم التبادل مع دول الجوار و يثبت موقعه التنافسي بجدارة. فرغم تطوره الملحوظ خلال فترة وجيزة و عصرنة بعض المعدات، لايزال ميناء انواكشوط يواجه اخطارا عديدة جراء التطور السريع لبعض موانئ الجوار و الانفتاح المتعدد من طرق و جسور، مما يفرض على ميناء العاصمة تعبئة موارد مالية معتبرة من خلال الولوج إلى مصادر التمويل. فالناظر إلى الموانئ المجاورة، يلاحظ ببساطة ان ميناء طنجة مثلا تحول إلى بوابة دولية خلال فترة وجيزة بفضل تعبئة موارد مالية مهمة مع شركات عملاقة لتطويره و عصرنته و توسيعه. و في الجنوب، نلاحظ مثلا أن ميناء داكار استقطب أكثر من مليار يورو لتوسعته و عصرنته عبر شركاء خليجيين ليتحول إلى ميناء أعماق يمكنه استقبال سفن عملاقة.
إن بلدنا تأخر كثيرا عن الركب ولايمكنه تحمل مواصلة السير ببطإ، و خاصة إذاكنا قد استثمرنا أكثر من مائة و أربعين مليار أوقية في مجال الطرق مثلا، في حين كان أولوية ان نستثمر ربع او ثلث هذا المبلغ في تطوير و توسعة ميناء العاصمة الوحيد لدينا. خاصة أن احتياجاتنا لبعض المنشآت المينائية و المعدات يشكل حاجة ملحة كمخازن المحروقات و المواد البترولية، و رصيف للحبوب مع مستودع، و المواد الخام و المثلجات و الرقمنة و القاطرات و معدات المناولة، إلى غير ذلك من الضروريات للموانئ. فهل سترفع السلطات العليا وصاية ميناء العاصمة انواكشوط ليتمكن بنجاعة من الولوج إلى الموارد المالية حتى يكون قادرا على مسايرة النمو. وخاصة أن حمل وزارة التجهيز يشكل عبئا ثقيلا للمتمعن في بلادنا بقساوة تضاريسها وتنامي أطرافها مما يجعل ربطها بالطرق تحديا صعبا. إن رفع وصاية ميناء انواكشوط إلى رئاسة الجمهورية و دعم استقلاليته و التعاون و التقارب بينه و بعض المؤسسات الوطنية مثل سنيم، لابد أن يدفع بولوجه إلى استقطاب أكثر من الشركاء الدوليين و تتكاثف جهود هذه المؤسسات حتى تعبأ الإستثمارات اللازمة بجميع الطرق بمافيها الإيجار المالي و القروض الميسرة و حتى نظام اتروستي لضمان سداد التمويلات المقترضة. إن بلادنا بحاجة ماسة إلى صياغة شراكات استراتيجية مع اقطاب وازنة ذات قدرة تمويلية عالية أو قادرة على تعبئة موارد كبيرة لتلبية الرؤية الاستراتيجيه لتطوير ميناء العاصمة انواكشوط ذي الأولوية لبلدنا. فالحاجة الاستثمارية تصل عشرات المليارات من الأوقية. فعلى سبيل المثال، يشكل تطوير القاطرات ضرورة مستعجلة بعد إلغاء صفقة الشراكة مع مجموعة بولودا الأربية العملاقة الناشطة في أكثر من ثلاثين بلدا و المصنفة ضمن المؤسسات السبعة الأوائل على مستوى الموانئ الاربية. لكن أهل مكة ادرى بشعابها حين ألقيت هذه الشراكة التى كانت بمقدورها أن تفتح لبلدنا آفاقا مهمة في ترقية برامجنا الاستراتيجية، غير أن تلك الشراكة قد تكون ضحية نظرة قاصرة للبعض أو تضمنت جوانب قد تغيب عن بعضنا و بالتالي يصعب عليه استيعابها مثل تفسير البعض على أنها تنازل عن السيادة وهو فهم قاصر لأن السيادة تعززت في احتفاظ إدارة القبطنة للميناء بكل برمجة و ترخيص حركة السفن، بل إن كل سفينة لايحق لها التحرك نحو الرصيف إلا بعد إذن إدارة القبطنة للميناء مع مرافقة مسؤول من هذه الإدارة مرفوقا بالسلطات الأمنية و الإدارية، و مثل ذلك مغادرة السفينة لا يسمح به إلا بإذن من قبطنة الميناء التي تتحقق من استيفاء السفينة لكل شروط المغادرة. فهل اتخذت السلطات المعنية القرارات الإستعجالية لوضع الآليات الكفيلة بتعبئة الموارد المالية الضخمة المطلوبة التي تتجاوز عدة مئات من ملايين اليورو كي لا يتقلص نشاط ميناء عاصمتنا الوحيد. فمن الضروري أن أي ميناء يشكل أول قطب اقتصادي و أن المدن الكبرى لم تتقدم إلا بفضل الأنشطة الاقتصادية لموانئها مثل الموانئ الآسيوية (شانكهاي، سنغفورة، هونكونغ،...) و الأربية (روتردام، هامبورغ، برشلونا، مرسيليا،....).
إن بلدنا بحاجة إلى تركيز جهوده على ميناء العاصمة انواكشوط كي لا تتبدد هذه الجهوده على موانئ صغيرة الحجم لا تواكب عولمة الإقتصاد العالمي و النقل البحري التي تتطلب منشآت كفيلة باستقبال و تفريغ سفن أكبر فأكبر و حوكمة أقطاب اقتصادية بإنتاجية تنافسية عالية. فأي محلل لاستراتيجيات الدول في تطوير موانئها يستنتج بسهولة أن أكثر هذه الدول تركز جهودها على ميناء واحد أو اثنين بشكل أساسي حسب حجم الاقتصاد و قدرة البلد. ففي فرنسا مثلا، ورغم شواطئ كبيرة شمالا و جنوبا و غربا، نجد أن تركيز السلطات الفرنسية ينحصر في ميناء مرسيليا في الجنوب و ميناء هاروبا في الشمال الذي شكل تجمع ثلاثة موانئ لوهافر و رووان و باريس حيث يتجلى تركيز جهود السلطات في تجميع هذه الموانئ لتكون أكثر فاعلية و نجاعة في قدرتها على تعبئة الموارد و زيادة الإنتاجية. إن بلدنا يحذو حذو كل البلدان الأخرى في نظامه الاقتصادي و التنموي حيث أن تبديد أي جهد ربما يكون كارثيا على تنمية البلد بسلبياته العديدة التي من ابسطها رفع تكاليف النقل البحري و مناولة البضاعة و بالتالي تكلفة الخدمات المينائية إثر إنشاء موانئ صغيرة، ناهيك عن كونه معيقا لتنمية قطب اقتصادي قادر على استقطاب الشركاء الدوليين لتمكين البلد من تنمية اقتصاده و الدفع بعجلته بنسبة نمو مرضية تجسيدا للمصلحة الوطنية.
إن ميناء العاصمة انواكشوط، رغم التطور الملحوظ و عصرنته خلال هذه الفترة الأخيرة بوتيرة متسارعة حيث حقق هذه السنة نتائج قياسية، لازال يواجه كثيرا من المخاطر للصمود أمام منافسة شرسة و انفتاح متزايد لبلادنا على محيطها عبر الطرق و الجسور، مما يستدعي قرارات استعجالية من السلطات العليا تعزز جهود تنمية اقتصادنا بعصرنة ميناء العاصمة انواكشوط حتى لا نقلص اقتصادنا و نكبح تقدمه. بل إن هذه الاستراتيجية يمكن أن تتضمن تكاثف و تعاون بعض المؤسسات الوطنية، على غرار النموذج الياباني مثلا. إن تعزيز هذا الدعم سيرفع لامحالة من فرص استقطاب شركاء دوليين أربيين أو خليجيين على سبيل المثال، ذووا قدرة مالية كفيلة بتلبية المتطلبات الاستثمارية أو قادرين على تعبئة الموارد الضرورية لذلك بمصداقية عالية حتى نجععل من ميناء العاصمة انواكشوط بوابة عصرية تربط بلادنا و دول الساحل مع باقي بلدان العالم لدفع عجلة الإقتصاد و التنمية و توطيد تموقعنا الاستراتيجي في اقليمنا.
المهندس محمد عبدالله اللهاه
هاتف : 31131284